نجحت معركة «طوفان الأقصى» في تحطيم هيبة جيش الاحتلال «الإسرائيلي»، ومحت أسطورة «الجيش الذي لا يقهر»، وجعلت العالم يتساءل عن حقيقة الاستخبارات التي تعرف كل شيء. تمكنت الساعات الأولى للمعركة من أن تضرب عمق الوعي الصهيوني، وتحفر في عقله الجمعي، مهشمة صورة الجيش والألوية العسكرية والمؤسسة الأمنية، التي تتبادل الاتهامات بـ«النوم» في 7 أكتوبر 2023، ثم وجهت ضربة لمشروع تصفية القضية الفلسطينية، ولمشاريع الاستيطان والتطبيع، بالإضافة إلى تسببها بصراعات سياسية كبيرة بين القيادات «الإسرائيلية» المختلفة، التي انقسمت إلى موالاة ومعارضة، ومؤيد لاستمرار الحرب ومطالب بهدنة لإخراج الأسرى، ومستعجل ومتمهل لاتفاقية تعيد الأسرى.
انطلاقاً من هذه الهزيمة المدوية، يحاول كيان الاحتلال شن حرب نفسية بائسة لترميم صورته المحطمة، ويستهدف في حربه هذه بالمستوى الأول، الجمهور الصهيوني من المستوطنين الذين شعروا بفقدان الثقة بحكومة نتنياهو وفقدان الأمان داخل الكيان، وبالمستوى الثاني يوجه العدو حربه النفسية إلى بيئة المقاومة وجمهورها، في محاولة لتعويض خسائره العسكرية، والوصول إلى أي إنجاز حتى لو كان على مستوى إشاعة الخوف والقلق في مجتمعات المقاومة الفلسطينية واللبنانية وغيرها من الدول، في إطار السعي لإعادة الصورة التي انتهت بعد السابع من أكتوبر.
على مستوى الداخل «الإسرائيلي» يعمل الكيان وفق أساليب منظمة ومدروسة للتأثير على جمهور المستوطنين، عبر الضخ الإعلامي والتصريحات الرسمية لكل من نتنياهو، غالانت، هاليفي، وهاغاري، الذين يهددون المقاومة في خطاباتهم ليظهروا أمام جمهورهم بمظهر القوي والمتحكم بالأمور، والمالك لزمام السيطرة العسكرية والقتالية. وهنا يحاول الاحتلال تضخيم إنجازاته من خلال الحديث الدائم عن التدمير والقضاء على كتائب القسام وحركة حماس عموماً، وإظهار حجم الغارات الجوية، وكميات المتفجرات المستخدمة، وهذا يظهر بوضوح في خطابات «هاغاري»، الناطق باسم الجيش.
وكذلك التمجيد والتفاخر بالجانب العسكري وإنجازات الميدان، التي هي بالأصل منعدمة، مع إظهار فائض القوة والتحكم والهيمنة. وهذا التمجيد والتفاخر يلجأ إليه نتنياهو دائماً، للاستعراض والتباهي بفائض القوة والهيمنة، بينما يستخدمه هاغاري بدافع الإثبات والتدليل على أن الجيش يقوم بمهامه ولا يقصر، ويترافق مع هذا التفاخر زيارة الجبهات وتفقد الجنود، والحرص على أخذ الصور. وعلى سبيل المثال يحرص نتنياهو على الظهور بمظهر الضاحك والممازح ورافع الرأس، سريع الحركة الذي يسلم على كل جندي أو يعانق البعض، ويستعمل المنظار العسكري للدلالة على أنه والجندي معاً، وهذا ما يجعل الجندي يتحسس الشراكة معه وتقاربه منه. كذلك يفعل هاليفي الذي يلتقي بالجنود في مناسبات متعددة؛ لكنه لا يستخدم الوجه الضاحك ولا الابتسام المفتعل أمام الكاميرا، ولا يقوم بأدوار مصطنعة، لأن وظيفته كقائد للأركان تضعه أصلاً في هذا الموضع. لكن بالمقارنة مع وزير الحرب غالانت، لا يمكن للمرء تجاهل ملامحه القاسية، وعدم ضحكه مع الجنود ولا حتى بمجرد ابتسامة، مع أنه يعلم بوجود الكاميرات والتصوير، لكنه ليس من ذوي التبسم أبدا، بل يفضل الظهور دائما بملامحه القاسية والجامدة التي يفهم منها القلق والأعصاب المتوترة والمشدودة في أحيان كثيرة، بالإضافة إلى ملابسه السوداء التي لم يبدلها تقريبا منذ 7 أكتوبر 2023.
وفي المستوى الثاني والموجه للمقاومة وبيئاتها، يقدم العدو الصورة الدموية العنيفة التي لا يتحرج الكيان وقادته من تداولها وتسويقها، مثل الاغتيالات وتفجير المجمّعات السكنية وتجريف المستشفيات وذبح الأطفال، رغم نتائجها السلبية على صورته، لكن الاحتلال يضحي بسمعته أمام الرأي العام العالمي، على حساب تنفيذ سياسة البطش والإجرام التي انتهجها كعقيدة قتالية منذ مرحلة تأسيس الكيان مع عصابات شتيرن والأرغون، وهي نهج سياسي وقتالي نادى به جابوتنسكي ونفذه بيغن وشارون قبل نتنياهو. تعتمد هذه الصورة الدموية والإجرامية على نشر الترويع وارتكاب الفظائع، وهو أسلوب نفسي قذر ينتج الخوف والتحسب، استخدمه الكيان منذ العام 1948 بدءاً بمذبحة دير ياسين التي قتل فيها العجزة والنساء والأطفال، لزرع الإرهاب والخشية من القيام بأي عمل مقاوم، وتكررت في صبرا وشاتيلا وفي حرب الإبادة على غزة حالياً.
ويعمد العدو بحربه النفسية إلى ترهيب الرأي العام اللبناني وجمهور المقاومة، من خلال التهديد بتكرار سيناريو غزة في لبنان، ويبث الإعلام العبري بشكل مستمر مواد تحذيرية وتحريضية تحاول إحداث شرخ بين المقاومة وبيئتها، وشائعات أخرى تهدف إلى تخويف المقاومة الفلسطينية ونشر الفزع، كما حصل مع التهديد بإغراق الأنفاق بمياه البحر أو رشها بغاز الأعصاب أو تحريك الأساطيل البحرية، وغيرها، واستخدام لغة تأثيرية خاصة في مضمون الرسائل «احذروا وحذروا أبناءكم، أي شخص يفكر بعمل ضد الجيش سنصل إليه ونقتله، سلم نفسك من أجل عائلتك، أخلوا منازلكم كي تسلموا...»، بهذه العبارات وغيرها، أطلقت «إسرائيل» حربها النفسية على الفلسطينيين، عبر التهديد العلني والمبطن والتحذير المسبق للنيل من عزيمتهم، والملاحظ أيضاً محاولات الإيقاع الدائمة بين المقاومة وبيئتها، من خلال الإيحاء والتخويف بأن الجيش «الإسرائيلي» يحذر من الاقتراب من مقار حماس وأماكن إطلاق الصواريخ، وأن حماس تحفر الأنفاق وتطلق الصواريخ بالقرب من منازلكم وهذا يعرضكم للخطر.
بشكل متواصل يشكك العدو بجدوى المقاومة، من خلال عرض الخسائر التي تتكبدها المقاومة وجمهورها مقابل خسائر العدو، والتركيز على الكلفة الباهظة لخيار مقاومة الكيان المؤقت، في مقابل إخفاء الخسائر المتراكمة في المجتمع «الإسرائيلي»، وبشكل منتظم يعمم المنشورات التهديدية التي تدعو لتسليم المطلوبين والتحذير من مساندة المقاومة بأي شكل، وهو عمل يهدف إلى بث الهلع والتخويف من دعم المقاومة.
ونجح الكيان في إنشاء حسابات مزورة وغير مزورة، وحسابات رسمية باللغة العربية تستهدف العالم العربي، والفلسطينيين بشكل خاص، كصفحة «إسرائيل تتكلم بالعربية» وصفحة «أفيخاي أدرعي» وسواها. وذكرت صحيفة «هآرتس» العبرية أن صناعة المحتوى على مواقع التواصل الاجتماعي تتم داخل الكيان من قبل فريق يتألف من علماء نفس، وخبراء تسويق، وباحثين في الدراسات العربية، بالإضافة إلى طاقم استخبارات «إسرائيلي» يعملون بشكل منهجي ومكثف لإحداث تأثيرات نفسية لدى الجمهور المتلقي.
ولأن الهزيمة حالة نفسية قبل أن تكون فعلاً، سعى الاحتلال في فلسطين ولبنان، إلى نشر الترويع بين الناس وكسر إرادة المقاومة لدى بيئتها، عبر معاقبة الحاضنة الاجتماعية لها، وإحداث شرخ في العلاقة بينهما، واستخدم في سبيل ذلك تقنيات جديدة لم تدخل المعارك التقليدية من قبل، منها -على سبيل المثال- الرسائل الشخصية عبر الهواتف الخليوية، حيث عمد الاحتلال «الإسرائيلي» إلى إرسال مئات الرسائل النصية للمواطنين الفلسطينيين، للتهديد أو للتحذير أو لطلب التبليغ عن تحركات معينة، وتحدث البعض عن رسائل غامضة أرسلت أيضاً إلى هواتف بعض اللبنانيين، إذ لم يكن التواصل الشخصي المباشر بالصورة التي هو عليها اليوم موجوداً أو مستخدماً من قبل. ولا ننسى هنا رسائل التجنيد أو عروض التقديمات والمساعدات والهدايا، في مقابل تقديم المعلومات عن قيادات المقاومة والناشطين ضد العدو، بالإضافة الى استخدام «الطائرات المسيرة»، التي لم يعرفها تاريخ الصراع مع العدو «الإسرائيلي»، بالشكل والهدف الذي ظهرت به، مسيَّرات مزودة بأجهزة تسجيل وتصوير، ومسيّرات تختص بحمل الصواريخ وضربها، ومسيّرات تحمل مكبرات صوت وتطلب إخلاء المناطق، ومسيّرات ترمي منشورات الإنذار والتهديد، ومسيّرات تؤذي بالصوت وضوء الليزر المزعج وتخترق حرمات المنازل... كل هذه الأدوات هي من التقنيات المستجدة في الحرب النفسية. ولأول مرة يستخدم العدو ميكروفونات المساجد لإذاعة الأغاني «الإسرائيلية» في مدن الضفة، أو حتى التجريف الكيدي لطرقات مخيم طولكرم أو مخيم جنين مؤخراً، بما يشي بأن الحرب النفسية التي يمارسها العدو تتخذ منحى تصاعدياً، وهو يدل على مدى القهر والعجز الذي يعيشه الاحتلال ويجعله يبتكر أساليب ترويعية جديدة.
ومن أساليب الإيذاء الجديدة التي استخدمها العدو «الإسرائيلي» ضمن الحرب النفسية منذ «طوفان الأقصى» قطع الإنترنت وفصل غزة عن العالم، لجعل الناس يفقدون الأمل ويشعرون باليأس، وللتكتم على ما يحصل في أرض المعركة. وكان لقطع الإنترنت آثار نفسية صعبة، لما يترتب عليه من مخاوف وإحساس بالعزلة الجماعية والوحدة. وأعقب ذلك شن حملات دعائية مركزة على شخصيات محورية ذات دلالة رمزية، مثل القائد يحيى السنوار والشهيد إسماعيل هنية ومحمد الضيف الذي ادعى اغتياله، والتهديد باغتيال قيادات المقاومة في أي مكان في العالم؛ لأن العدو يدرك مدى تأثير هؤلاء الأشخاص ومدى الارتباط بينهم وبين الجماهير.
أمام هذه الحرب المكثفة والمتطورة نحن بحاجة إلى تحصين مجتمعات المقاومة بعدم تصديق كل ما يعلنه العدو «الإسرائيلي» والتهويلات التي يقوم بها، لتجنب الوقوع في دوامة الخوف والانتظار أو الترقب؛ لأنها تؤدي إلى القلق والتوتر، وعدم الانجرار وراء مطلقي الأخبار بلا مصادر وبلا تدقيق، لأنهم يفتعلون الأزمات أو يثيرون الفوضى. وتتجلى مهمة الإعلام ورواد مواقع التواصل في رفع الروح المعنوية لدى كل شخص في المجتمع المقاوم، وإظهار أن القوة التدميرية لدى العدو هي دليل واضح على عجزه وفشله، وتسويق المعلومات التي تتحدث عن نسبة الخسائر وأرقامها في الكيان، ومنها تراجع التصنيف الائتماني وتوقف المطارات والمصانع، وتوقف بعض المصالح أو المشاريع، وعدم إذاعة أي معلومة عسكرية عن بيئة المقاومة، لأن العدو يحاول جمعها وتوظيفها للاستفادة منها، وعدم نشر أي معلومات مجتمعية مثل أخبار النزوح ومشاكل السكن البديل.
كما تحتاج جبهتنا المقاومة إلى إنشاء وحدات متخصصة بإدارة الحرب النفسية، تضطلع بإجراء دراسات وتقديم أفكار حول الظروف المحيطة وكيفية التعامل معها، وفرق متخصصة في إثارة الفوضى وافتعال الأزمات داخل المجتمع «الإسرائيلي»، من خلال فبركة الأخبار والتقارير الموجهة لأغراض معينة، مع تفنيد التصريحات الرسمية «الإسرائيلية» ودحضها، وإطلاق بعض التطبيقات الالكترونية الموجهة، التي تهدف إلى إشعار العدو بالخوف الدائم، مثلا تطبيق عبر الهاتف يرسل إشعارات عن الأجسام الطائرة في الجو أو إطلاق الصواريخ، وهذه دعوة لابتكار أدوات جديدة تسهم في الحرب النفسية ضد العدو نحن بأمس الحاجة إليها.