كان مع موعد مع الفجر... فما إن بدأت أنامل الفجر تتسلل في العتمة و تصبغ الكون بضياء الصبح و بدأ الوجود يتنفس نسائمه العليلة حتى كان الشيخ أبو سالم قد انتهى من تناول إفطاره وشرب فنجان قهوته المفضل بعد أن استفتح يومه بصلاة الفجر و متابعة قراءة الأجزاء التي وصل إليها بنية ختم المصحف كما جرت عليه عادته...كان ذلك اليوم من الأهمية عنده ما جعله يرقب كل ثانية لبزوغه و إطلالته بفارغ الصبر...انتقت يديه ثوبه المخصص للمناسبات...وضع شاله بعناية على كتفيه و تحسس طرفيه المنسدلين و رش على ملابسه رذاذا من العطر و لم ينسى أخذ مسبحته رفيقته أينما ولى...غادر المنزل صوب وجهته، عبر الشارع المؤدي الى موقف الباصات رغم أن الصباح ما زال في تنهيداته الأولى إلا أنه كان يعج بالحياة فهنا و هناك من خلفه و أمامه و على مرمى بصره كانوا يمشون الى ذات الوجهه و إلى نفس المقصد.
صعد الباص الذي انطلق يصدح بالأغاني الوطنية، تأمل الوجوه حوله كانت تنطق بشرا و سرورا، شاهد الطرقات من النافذة كان كل شيء يزهو بتلك الألوان الثلاثة البهية،، كان الصباح رقراقا بهيا وضاحا ليس كأي صباح...ها هو الآن حيث أراد في الساحة التي ضمت بين خافقيها كل حر شريف شغوف باليمن و يا لهيبة الموقف و يا لعظمتها من لحظات كانت الجموع تتوافد من كل حدب و صوب لترسم لوحة اليمن الجديد كلها تنبض بقلب واحد و تحركها نفس المشاعر....
كان كل شيء له و منه و فيه كل شيء يجسده و يتغنى به، الجميع على قلب واحد يجمعهم حب الوطن فالعلم اليمني هو المتحدث باسم الجميع، رفعته الأكف عاليا و تزينت به الجباه و الوجوه، و توشحت به الأكتاف و الصدور .... كان هو يظهر في ملامح الصغار في نواصي الرجال ،، في بسمات الكهول و أعين النساء، تماهت كل الحواجز و ذابت كل الفروقات فالكل واحد و الواحد الكل،،، كان قلبه يهتف فرحا و هو يردد مع الجموع الغفيرة (بالروح بالدم نفديك يا يمن)، تنامت مشاعره و تصاعدت و لم يستطع حبس عبرته التي سالت من مقلتيه هنا الجميع تنفس الشموخ و العزة و الإباء توحدهم راية واحدة و تضمهم أرض بهم تفتخر و تعتز،، تذكر للحظات ابنيه الشهيدين اللذين استشهدا في الحدود ضد المعتدين فسرت في بدنه قشعريرة رضا و سعادة و امتلأ كيانه فخرا،،، أدرك أن بدمائهما الطاهرة الزكية و دماء غيرهما من الشهداء و بهؤلاء الأوفياء الصامدين الذين حضروا لن تستطيع أي قوة في الكون أن تسلبهم وطن يسكن بين ضلوعهم و تخفق به و له أفئدتهم،،، هنا إرادة شعب تجلت و كلمته الفصل جلجت،،، فهل في الكون له مثيلا؟ لا فهو الأفضل،،، الأغلى،،،الأكمل،،، الأقوى،،، و الأبقى و سيظل حرا أبيا ما دامت الحياة....
تمنى لو طال به الزمن و توقفت عقارب الساعة عن الدوران ليظل حبيس هذه اللحظات التي لا يملك أحد مثلها سوى اليمني و يبقى بين تلك الجموع التي شعر بأنها تنضح بمشاعره و تترجمها علانية فمن هتافاتهم و من عمق مشاعرهم استمد و استزاد حياة لبقية عمره الى أن يوارى الثرى،،،
مضت ساعات ذلك الصباح كأنها عمر كامل بتفاصيله ، عمر يحب أحدهم لو يحياه ألف مرة و يذوق حلاوته ملايين المرات...
انتهت المسيرة و بدأت الجموع في الإياب كل يهدي الآخر محبته عبر عينيه و من خلال البسمة التي علت كل ثغر...
عاد أبو سالم إلى منزله و توجه نحو تلك الصورتين المعلقتين على الحائط و تأملهما بعينين مملوئتين عزا و حبا و شوقا و فخرا.
الصورتان اللتان حملتا وجهين لشابين نظرين في مقتبل العمر و في أسفل الصورتين مكتوب بخط بارز (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه).