لم تقتصر الحضارة اليمنية القديمة، على جانب واحد، كما هو الأمر في الحضارات الأخرى، التي اشتهرت بالحضارة العمرانية، كالحضارة الفرعونية، أو التي تميزت بالرقي الثقافي والمعرفي، كالحضارة الإغريقية، أو غير ذلك من أشكال الحضارات المتعاقبة، التي كانت تبرز في جانب معين بشكل أكثر وضوحا، غير أن الحضارات اليمنية القديمة، تميزت بشموليتها معظم جوانب الحياة، وارتكازها على أهم عوامل التطور والازدهار، لتحقق بذلك نموذجا حصاريا راقيا ومتأصلا، في مسار الحضارة البشرية.
كما أن الإرث الديني الذي توارثه اليمنيون، كان حاضرا ومهيمنا في عمق تكوينهم الحضاري والفكري، ومختلف طقوس حياتهم اليومية، وكانت التضحية في سبيل الدين، هي أخص صفاتهم، وكان تمسكهم بالدين أعظم ميزاتهم، حتى لو كان الثمن إحراقهم بالنار أحياء، كما هو شأن مؤمني أصحاب الأخدود.
كثيرة هي القصص التاريخية والدينية، التي تقدم تأصيلا تاريخيا لعلاقة اليمنيين بالدين الإسلامي عبر التاريخ، وتوثق صور تمسكهم بالدين وانتصارهم له، وها هو أحد ملوك التبابعة يفوز بسبق كسوة الكعبة، وقد علم أن نبي آخر الزمان، سيظهر في يثرب، فأمر رجاله بالرحيل إلى هناك، وعمارة ذلك المكان، والانتظار حتى يحين موعد ظهور النبي المنتظر، ليؤمنوا به وينصروه.
ولم يكن أهل اليمن جاهلين ذلك الأمر، فما إن وصلهم خبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وصفته وما كان من شأنه، حتى فاضت أعينهم من الدمع، لما عرفوا من الحق، على لسان رسوله إليهم، أخيه ووصيه باب مدينة علمه، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وأمام نور الحق الساطع، لم يسعهم إلا إعلان إسلامهم جميعا، فأسلمت همدان كلها في يوم واحد، وحين بلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خبر إسلام همدان، خرَّ ساجدا، شاكرا لله، ومثنيا عليه، ثم قال: "السلام على همدان.. السلام على همدان.. السلام على همدان"، وحين وصلت وفودهم إلى المدينة المنورة لمبايعة رسول الله، قال صلى الله عليه وآله وسلم: "أتاكم أهل اليمن.. هم أرق قلوبا وألين أفئدة.. الإيمان يمان والحكمة يمانية"، فكان قوله ذاك هو وسام الشرف الأعظم، الذي مُنِحَ لليمنيين دون غيرهم، وخُصوا به دون سواهم، ليكونوا تجسيد كمال الإيمان ومطلق الحكمة؛ وتصديقاً لما قاله الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، أنزل الله تعالى شهادته المزكية لنبيه، وتكريمه وتشريفه لليمنيين، قرآنا يتلى إلى يوم القيامة، واصفا إياهم بنصر الله والفتح، ودالا بهم على كمال الدين وتمام الرسالة، فقال تعالى: "إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجاً، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً".
كانت جمعة رجب هي اللحظة الفارقة في تاريخ اليمنيين، والتحول الكبير الذي رسم مسار حياتهم الجديدة، حيث استأنفوا بداية من هذا اليوم، دورهم الريادي والقيادي، ومهمتهم في صنع الهوية الحضارية الإنسانية، انطلاقا من عمق وقوة الهوية الإيمانية، التي تشكلت وتجذرت في نفوسهم وقلوبهم، على يد باب مدينة علم النبي، وأخيه ونفسه وهارونه، لذلك كان انتماؤهم للدين أصيلا، وارتباطهم بالنبي والوصي وعموم آل البيت وثيقا، ونصرتهم لدين الله، وحملته من أئمة الحق وأعلام الهدى مهمة رئيسة، بذلوا أنفسهم لها، وقدموا في سبيلها كل التضحيات.
لذلك يأتي احتفال اليمنيين بجمعة رجب في سياق الاحتفاء بنعمة الهداية، والابتهاج بعظمة التشريف والتكريم الإلهي، الذي اختصهم به الله ورسوله، كما أن احتفالهم هو تجديد بيعتهم لله ورسوله ووليه، وتأكيد منهم على القيام بما انتدبهم من أمر دينه، وما حمَّلهم من تبليغ رسالته، وكلفهم بنصرة الحق، ومقارعة الظالمين المستكبرين، على مر العصور.
إن جمعة رجب في بعدها الحضاري الإنساني، تعكس حقيقة المهمة التي كُلِّفَ بها اليمنيون، من الحفاظ على الهوية الإيمانية، ورفض ما يشوبها من تبعية للظالمين، أو استلاب للجبابرة المستكبرين، بما من شأنه جعل الهوية الإيمانية، هوية حضارية إنسانية شاملة.
يمكن القول إن جمعة رجب بالنسبة لليمنيين، أصبحت أيقونة مقدسة، تحمل دلالات الهوية الدينية، والانتماء الإيماني، والتسليم والإسلام لله رب العالمين، كما تحمل مدلولات الصورة الدينية الجامعة الشاملة، التي أسسها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ممثلة في الجامع الكبير، وأسس المنهج الذي رسمه لهم دينا وتدينا، واعتقادا وسلوكا، وإيمانا وتصديقا وتسليما.
ويأتي الاحتفال بجمعة رجب في ظل الوضع الراهن، وما أفرزته مستجدات العدوان الصهيوسعوأمريكي الإجرامي على الوطن، الذي يتعمد استهداف المجتمع اليمني في صميم ثقافته وهويته وانتمائه وتدينه، استهدافا خبيثا شاملا وممنهجا، غير أن اعتصام هذا الشعب بربه، والتفافه حول قائده، السيد القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي، حفظه الله ورعاه، حفيد أمير المؤمنين عليه السلام، ومجدد دعوته لأهل اليمن، والمبايع بيده، والمحيي نهجه وسيرته، قد استطاع أن يستعيد هويته الإيمانية، ويجدد ارتباطه الوثيق بالدين، وأعلام الهدى من آل بيت النبوة عليهم السلام، مؤكدا مضيه في ما مضى فيه أسلافه الأنصار، وإعادة البشرية إلى المسار الصحيح، والطريق القويم، وتعبيدهم لله تعالى وحده، وها هي قلاع الظلم تتهاوى، وعروش الجبابرة الطغاة تتزلزل، وها هم أنصار الله وأنصار حفيد نبيه، يسطرون أعظم الملاحم والبطولات، مؤكدين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، من خلال حفيده السيد القائد عليه السلام، أن ظنَّه لم يخب، ولن يخيب فيهم، وأنهم نصر الله والفتح المبين، فيهم كمال الإيمان، وبهم تمام نور الله، ولو كره الكافرون.