تلعب النقابات العمالية ومنظمات المجتمع المدني عامة دورا هاما وأساسيا في الارتقاء بحياة المجتمع وصناعة مستقبله المشرق، بما يلبي آمال وتطلعات الجماهير على كافة المستويات والأصعدة الحياتية، كون تلك النقابات العمالية ذات طبيعة شعبوية جماهيرية عامة، تصدر عن هموم الشعب وتسعى لتحقيق المصلحة العامة، خلافا لحسابات اﻷحزاب السياسية القائمة على الارتهان للمصلحة الذاتية (الحزبية) غالبا، والمنطلقة من حناجر البنادق لتحط على كراسي السلطة وهيلمان النفوذ، ولعل ذلك هو السبب في ظهور حالة من الحذر الزائد والشك الدائم عند التعاطي مع تاريخ اﻷحزاب وتوثيق أدوارها النضالية وتضحياتها التي لا يمكن الجزم ببرائتها مطلقا، غير أن الحال يختلف عند التعاطي مع دور وتضحيات النقابات العمالية ذات الصبغة الجماهيرية والمصلحة العامة، وخاصة حين يتعلق الأمر بالدفاع عن سيادة الوطن واستقلاله وحريته، ضد مستعمر غاصب وعدوان خارجي.
يحدثنا الأستاذ عبدالله البردوني في كتابه (الثقافة والثورة في اليمن)، تحت عنوان (اتحاد اﻷدباء والكتاب اليمنيين ) - بوصفه نقابة ثقافية مهنية - عن بداية تأسيس النقابات بعد ثورة 1962م، ودورها في حماية الثورة، حيث كانت نقابة العمال أول نقابة أسست بعد الثورة السبتمبرية، إبان أفتتاح مصنع الغزل والنسيج عام 1964م،(( فكان لنقابات العمال وزن رجيح في العمل الثوري، إذ كانت النقابات تدعو إلى المظاهرات وتقودها في وجه كل مؤامرة على الثورة السبتمبرية))، ولم يقف الدور النضالي البطولي المشرق لهذه النقابات عند التعبير عن الغضب والرفض والاحتجاج فحسب، بل وصل الأمر إلى حمل السلاح للدفاع عن الوطن ففي عام 1967م، (( تحول مصنع الغزل والنسيج إلى معسكر دفاعي عن صنعاء)) وحملت المرأة السلاح وخاضت معارك الدفاع وتقرير المصير إلى جانب أخيها الرجل (( فشكل عمال المصنع وعاملاته فرقا هجومية بقيادة ضباط مختارين من الجيش واﻷمن ))، وقد أبدى هذا التنظيم العمالي مهارة فائقة في استخدام السلاح، وتحقيق أروع نماذج البطولة والتضحية، (( حتى أصبح عمال المصنع أقوى حلقة في السور الدفاعي الذي حامى عن عاصمة الثورة )).
ونتيجة لذلك الواقع اﻷمني المتردي وظروف الحرب القاهرة، عجزت وزارة التربية والتعليم - أنذاك - عن توفير مستلزمات وتجهيزات المدارس، إضافة إلى صعوبة أو امتناع وصول الأساتذة من الخارج، فأثر ذلك سلبا على العملية التعليمية، (( فاضطر المتخرجون من أول الخمسينات إلى عام 1967 م إلى التطوع للتدريس، فجاء الأساتذة من كل موقع وظيفي إلى مدارس المدائن من الابتدائي إلى الثانوي واستغنت المدارس بالمتطوعين الذين تكاثروا من شهر إلى شهر)).
كانت تلك مقتطفات من التاريخ المنسي عمدا، والبطولات الشعبية المهمشة، والتضحيات الجمعية الصادقة التي أغفلها التاريخ النخبوي ﻷنها لم تخدم طرفا من أطرافه، غير أن المؤرخ والفيلسوف الشعبي الوطني، قد أعاد لها حيويتها وزخمها وتألقها في سياق توثيقها والاحتفاء بتفاصيلها وأبعادها وتداعياتها، إنصافا للحقيقة وتأسيسا ﻷبعاد الصورة الكاملة.
كانت تلك هي صورة النضال بكل أبعادها والتضحيات بمجمل تفاصيلها، التي قدمها اﻷبطال السبتمبريون في سبيل تحقيق ثورتهم وحرية واستقلال وطنهم وفقا لمعطيات المعنى العام.
لا يمكن القول ما أشبه الليلة بالبارحة، ﻷن موقف نقابات الأمس البطولي والسيادي، غير موقفها اليوم، والوطن يتعرض ﻷبشع عدوان وأكبر تحالف في تاريخ البشرية، كما أن العملية التعليمية باﻷمس كانت أحسن حالا منها اليوم، وما سطره اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين - كنقابة عمالية ومنظمة مجتمع مدني - من أدوار وطنية بطولية مشرفة آنذاك لا نجد له أثرا اﻷن، رغم أن الحالة أدعى والوضع أزرى والوطن أحوج لصوت المثقف الحر الحامل لمشاعل الوعي والتنوير والقائم بمهمة الحشد والتعبئة للدفاع عن إنسانية اﻹنسان وقيمه ومبادئه، ضد قوى التوحش وآلات القتل والدمار والإبادات الجماعية، غير أن الواقع أفصح عن عكس ذلك، وكأن مسيرة الوعي والثقافة والفكر منذ ثورة سبتمبر 1962م إلى ثورة سبتمبر 2014م، لم تكن غير رحلة من الانحطاط والانحدار نحو البدائية وهيمنة الجهل والتوحش والعصبيات التي يجمعها السفه والطيش رغم اختلاف مسمياتها، وأنها لا تعدو كونها رحلة انهيار قيمي وأخلاقي وفكري، رفضت قانون التطور الطبيعي، لترسم مسارها الخاص خارج مدارات الزمن المتعاقب وأحواله ذات الطبيعة التطورية.
وذلك هو أقل ما يمكن أن نصف به انقلاب طبيعة الدور النقابي الوطني النضالي، إلى تمثيله دور الخذلان والغياب والعمالة والارتهان، بل وأسوأ من ذلك ما قامت به نقابة المهن التعليمية - في ضل هذا العدوان الغاشم - من عرقلة لمسيرة العملية التعليمية، وتحريض كافة منتسبيها على اﻹضراب وإجبارهم على ذلك وإغلاق المدارس، بحجة المطالبة بالرواتب، التي لا تعدو كونها مطلبا محقا ولكنه يفتقر للتوجيه الصحيح والمسار
الذي يجب أن يكون عليه، وهذا يقودنا إلى مؤشر خطير يمثله ارتكاس دور النقابات وافتقارها للوعي الوطني والحماس الثوري، وتدنيس صدق النقابات وبراءتها الجماهيرية، بتدليس الأحزاب وزيفها المسيس بالمصالح الفئوية، وكأن معاناة المعلمين من انقطاع الرواتب غير معاناة الشعب بأكمله، وكأن حاجة المعلم للراتب أكبر من حاجة الجنود والمجاهدين في الجبهات والأسرى والجرحى والمفقودين، وبدلا من استعادة الدور النضالي البطولي دفاعا عن الوطن إلى جانب الأحرار الشرفاء من أبناء الشعب، عمدت نقابة المعلمين إلى معاقبة الأجيال الناشئة واغتيالهم فكريا وأخلاقيا وقيميا، وتنفيذ أبشع مجازر الإبادة الجماعية، التي لا تقل إجراما ووحشية عن مجازر طائرات العدوان ومرتزقته.
لقد سقطت كل شعارات(( الجملوكيين)) الذين في الداخل والخارج معا، واتضح جليا زيف انتسابهم لسبتمبر الثورة والتضحية والاستقلال وتبيين بما لا يدع مجالا للشك حقيقة الدور السلبي الذي تلعبه تلك النقابات والمنظمات والمؤسسات الثقافية العامة والخاصة، المدجنة والموجهة والمستلبة وذات الدفع المسبق، في ضل شراكة سياسية هشة وحكومة فاشلة بكل المقاييس وفساد مالي وإداري كبير وشعب صابر صامد، لا يحول بينه وبين انتصاره على جلادية، إلا تلك المناكفات الحزبية والمهاترات السياسية والنظرة القاصرة والتصور المغلوط لطبيعة الحكم القائمة على المحاصصة وثقافة الفيد والعقلية الإقطاعية المتسلطة.
إذا كانت نقابة المهن التعليمية- كنموذج بسيط- قد انتهجت هذا الموقف السلبي الفاضح، إنطلاقا من أيديولوجيتها الحزبية ومصالحها الخاصة، المتعارضة مع مصالح الشعب وتضحياته، والملبية لرغبات العدوان في شق الصف وكسر جبهة الصمود الداخلية والخارجية، فما الذي سيقدمه هؤلاء المدرسون مربوا اﻷجيال وصانعوا قادة المستقبل من وعي وفكر وثقافة وتطور ورقي ﻷبنائنا، وإلى أي حد يمكن الركون إلى القيمة العلمية والمعرفية واﻷخلاقية التي يزعمون انهم يقدمونها؟ !