خليل المعلمي - الثورة نت :
يعد الأدب والفن جبهة لا يستهان بها تضاف إلى الجبهات العسكرية والسياسية في دعم الثورية اليمنية الـ26 من سبتمبر، والـ14 من أكتوبر المجيدتين، وكان للمبدعين من الأدباء والمثقفين دورهم ودعمهم لنضال الشعب اليمني ضد الظلم والطغيان وضد المستعمر البغيض الذي عمل على تقسيم وتفريق الوطن إلى كيانات ومحميات ومناطق فرض عليها الحماية، وظهر ذلك من خلال إبداعاتهم في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، وبالتالي نشأ أدب المقاومة شعراً ونثراً وغناء وقصة، وظهر الرواد في هذا المجال أمثال الأساتذة كل من: عبدالله هادي سبيت وصالح نصيب، ومحمد سعيد جرادة ولطفي جعفر أمان وادريس احمد وحمزة لقمان وعبدالله فاضل فارع وسعيد الشيباني والشاعر علي مهدي الشنواح، وغيرهم ممن عملوا على إذكاء الروح الثورية وتصعيد النضال وبسط السيادة الوطنية على الجزء المحتل من الوطن.
ثورة الأدب وأدب الثورة
وفي هذا المقام يقول شاعر اليمن وأدبيها الكبير الدكتور عبدالعزيز المقالح: إذا كانت ثورة الأدب قد أسهمت في الايقاظ والتحريض على دك النظام العقيم في شمال الوطن ودحر الاحتلال الأجنبي في جنوبه فإن أدب الثورة قد أسهم في ترسيخ الثورة ذاتها وفي تحديد ملامحها وطنياً وعربياً وإنسانياً وأسهم في الانفتاح على التجارب الإبداعية في الوطن العربي والعالم، وحقق كل هذا الثراء الفني في الشعر بأشكاله المختلفة في القصة والرواية وفي الكتابات المسرحية، وإذا كانت ثورة الأدب قد تمحورت حول الواقع الذي كان قائماً بمآسيه وتخلّفه وصوره المفزعة فإن أدب الثورة قد تمحور حول المستقبل بكل ما يحفل به من حنين إلى الزمن الجديد ومن أحلام وأشواق ورفض لكل ما تبقى عالقاً من مخلفات العهدين البائدين.
ويشير الدكتور المقالح في ورقة عمل قدمها إلى إحدى الندوات التي ناقشت مراحل الثورة اليمنية إلى أن القصيدة قد عَبَرت من خلال الثورة من الماضي إلى الحاضر وشهدت ثورة حقيقية في الشكل والمضمون وأفسحت الطريق لدخول أشكال جديدة في الكتابة الإبداعية، استهوت عشرات الشبان المبدعين ذوي المواهب العالية، وخرجت القصيدة والرواية عن قواعدهما التقليدية إلى فضاء أوسع.
ويؤكد الدكتور المقالح أن الأدب قد نجح في إقامة الثورة وأن الثورة نجحت في فرض الانفتاح وبث الحياة في الأشكال الأدبية وإغنائها من الداخل باللغة الجديدة والصور المثيرة المدهشة، وبذلك يكون الأدب قد قام بواجبه نحو الثورة وتكون الثورة قد قامت بواجبها تجاه الأدب كما ينبغي.
دور الأدب والفن في حركات التحرر
في كتابه (التراث الشعبي) يذكر الدكتور عبدالحميد يونس أن قرنا ونيف من الاستعمار البريطاني المباشر على عدن والاستعمار المقنع باسم (الحماية) على سلطنات ومشيخات الشطر الجنوبي من الوطن خلق أوضاعاً شاذة وخطيرة لا نظير لها في وطن العرب وغير العرب، ساعدت على استقرار وثبات هذه الأوضاع النظام الإمامي في شمال اليمن والجمود التام في وطن العرب، وفي مستهل الخمسينيات تشكل حزب (وحدة الجنوب العربي) تحت شعار مقاومة التجزئة التي خطط لها المستعمر وهدف من ورائها إلى زرع كيانات صغيرة مستقلة في المنطقة وقد استقطب الحزب معظم الشباب من المثقفين والوطنيين والطبقة البرجوازية، وأفرزت هذه الحركة أو الحزب عدداً من الأغاني للشاعر الملحن عبدالله هادي سبيت، ومن بين هذه الأغاني الحماسية الثورية أغنية (القطن) والتي مثَّلت بدايات الأغاني الداعية للثورة على الاستعمار البريطاني.
وقد أدت الكلمة المغناة دوراً كبيراً في مقارعة الاستعمار البريطاني وطرده، إذ ظلت الأغنية الوطنية خاصة في الشطر الجنوبي من الوطن تقارعه وتلهب حماس الجماهير وتدعوهم لإيقاظ الشعور بالثورة، ولقد زعزعت الأغنية الوطنية -باعتراف المستعمر نفسه- مداميكه، إذ كانت توازي دور الطلقة في هز كيان المستعمر وتفكيك صفوفه.
مقاومة شاملة
كان للفنان محمد محسن عطروش الدور الكبير في تلحين وأداء أهم وأفضل هذه الأغاني الوطنية والحماسية، ويؤكد في ورقة قدمها في ندوة حول الثورة اليمنية أن مقاومة المستعمر كانت مقاومة شاملة، لم تقتصر على السلاح فقط، بل كان للكلمة واللحن والغناء الدور العظيم والمؤثر، وقال: إن كثيراً مما مر على مسامعنا من قصائد فصحى ودارجة وألحان وأشعار وزوامل ومهاجل وأناشيد وأغان كان لها بالغ الأثر في إذكاء الصحوة والوعي، ولازال صداها يرن في المسامع وأنها لازالت ذكريات حية فينا وتحتل وجداننا ولا ننكر أنها كانت النداء المحرِّض والدافع لهبة المقاومة وبقيت حية فينا إلى يومنا هذا.
الأغنية الوطنية والأغنية القومية
لقد زخرت فترة المقاومة والثورة بالكثير من الأغاني الوطنية والقومية على مساحة كبيرة من الوطن وتناقلتها الإذاعات وذاع صيتها في كل واد وجبل وسفح وسهل وتغنى بها أبناء اليمن الواحد من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه.
فالأغنية الوطنية هي ذلك اللون من الغناء الذي يعبِّر عن الحنين إلى الوطن والتغني بأمجاده ويطلق عليه الأغنية الوطنية، ومثال على ذلك أغنية (رددي أيتها الدنيا نشيدي) وهي للشاعر عبدالله عبدالوهاب نعمان وغنَّاها الفنان الكبير أيوب طارش عبسي.
أما الأغنية القومية فهي التي تدعي إلى الثورة ومقاومة الاستعمار وتدعو إلى الحرية ومثال على ذلك أغنية (برع يا استعمار) للفنان الكبير محمد محسن عطروش وأغنية (كبلوني) للشاعر لطفي أمان وأداء الفنان الكبير أحمد بن أحمد قاسم، وأغنية (أنا الشعب زلزلة عاتية) للفنان محمد مرشد ناجي.
ترديد الأغاني الوطنية
وكان لثورة 26 سبتمبر المجيدة ثقلها في تفجير الطاقات الوطنية في جنوب اليمن وخاصة في عدن، فكانت الجماهير تحتشد في الشوارع، وتردد الأغاني والأناشيد الوطنية، معلنة تأييدها للثورة اليمنية (سبتمبر وأكتوبر) ونشطت اجتماعات القوى الوطنية وخاصة الحركة العمالية والأحزاب السياسية ومنها حزب الشعب الاشتراكي، وأدى ذلك إلى اضطرابات في صفوف التحالف الاستعماري، مما حدا ببريطانيا إلى إعادة ترتيب الأوضاع وفق الأحداث والمستجدات الجديدة، وتعمل بأسلوب المراوغة التي اشتهرت بها في تجميل صورتها ودعم تكتل ما يسمى (اتحاد الجنوب العربي)، إلاّ أن كل تلك الإجراءات باءت بالفشل بعد التحرك الشعبي الثورة الذي قام به أبناء اليمن في الجنوب والشمال، وكان للأغاني الوطنية والحماسية الدور الكبير في المقاومة والتواجد في ميادين الاحتجاجات وميدان المعركة.
(أخي كبلوني)
لقد أحيت الأغاني الوطنية الروح القتالية لدحر الغزاة من قبل مجموعة من الفنانين والمبدعين، حيث بدأت طلائع الأغنية الوطنية تلهب المشاعر مبكراً فكانت أول أغنية طليعية (أخي كبلوني) والتي ظهرت في العام 1954م، وهي من كلمات الشاعر الكبير لطفي جعفر أمان، وقام بتلحينها وأدائها الفنان الكبير محمد مرشد ناجي.
وتعود عوامل وأسباب كتابة الأغنية إلى وقوع حادث تمثل في أنه عندما تم تقديم المناضل الفقيد عبدالله عبدالرزاق بأديب للمحاكمة الشهيرة خرجت الجماهير في عدن إلى ساحة المحاكمة غاضبة من تصرف المستعمر، لم يسع -في ظل هذا الحدث- شاعر موهوب وكبير بحجم الأستاذ الشاعر لطفي جعفر أمان إلا أن اطلق شعراً غنائياً على لسان الفقيد بأديب المشهورة بعنوان بـ(أخي كبلوني).
وتعتبر هذه الأغنية ذات أهمية كونها أول أغنية وطنية لعبت دوراً بارزاً في حياة الشعب اليمني ونقتبس منها الأبيات التالية:
أخي كبلوني
وغل لساني واتهموني
بأني تعاليت في عفتي
ووزعت روحي على تربتي
وخنقت أنفاسهم قبضتي
لأني أقدس حريتي لذا كبلوني
أخي يا أخي أيصفعني الخوف
لا يا أخي
أحبس ناري لا يا أخي
أنا لطخة العار في موطني!
إذا انهار عرضي ولم أصرخ
بحق الوطن بهذا القسم
أخي قد نذرت الكفاح العنيد لهذا الوطن
إلى أن أرى أصدقائي العبيد وهم طلقاء
يقولون ما مات حتى انتقم
أثقال القيود
سلام الشجعان
وقد أسهم الفنان الكبير إسكندر ثابت بدور هام في مجابهة المستعمر والانتصار لـ(نوفمبر الاستقلال) بأغانيه الوطنية المعبرة والتي كانت تذاع من خلال إذاعة صوت العرب ومنها هذه الأغنية:
سلام الفين للشجعان في الأشعاب والبندر
وعلى صوت العرب قاموا من أجلك
يا شعب الجنوب النصر يهنا لك
حلفت أيمان بالقرآن والخنجر
الفنان الثائر
أما أغنية (القطن) وهي من كلمات الشاعر عبدالله هادي سبيت التي أنتجها الفنان الثائر انطلقت بعد أن أدخل الإنجليز زراعة القطن إلى المنطقة، وقد لقيت هذه الأغنية رواجاً جماهيرياً لما تضمنته من صور ملهبة وكلمات حماسية، وكانت تقابل من قبل الجماهير بالحماسة:
قالوا لنا غيركم جابه يبا يحتل
جابه مثيل الشلل
يقضي على كل مفصل
هيهات والله ورب العرش ما نحتل
لا ذا ولا ذا حصل
إلا إذا الكل يقتل
زلزلة عاتية
أما الأغنية المدوية والمشهورة (أنا الشعب) وهي من كلمات الشاعر عبدالعزيز نصر فكان لها بالغ الأثر في تحقيق الاتصال الوجداني لأبناء الشعب وللخلاص من الاستعمار وهي تتحدث عن ثوران الشعب اليمني والتفافه حول ثورته الوليدة وهبته لنجدتها من كل سهل وجبل وواد واندفاعه لنصرتها ودق معاقل المستعمر وسحق المرتزقة والعملاء وتقول كلمات هذه الأغنية:
أنا الشعب زلزلة عاتية
أنا الشعب قضاء الله في أرضي
إلى أن يقول:
أنا الشعب.. أنا الشعب..
ستخرس أصواتهم صيحتي
ستخرس نيرانهم قبضتي
أنا الشعب زلزلة عاتية
أنا الشعب.. أنا الشعب
برع يا استعمار
ومع مرور الزمن واشتداد المقاومة المسلحة وانتشار المظاهرات الطلابية والعمالية وكثافتها تتفجر الأغاني الوطنية الحماسية، داعية لمواصلة النضال عبر سلاح الكلمة واللحن والنغم، وقدمت حناجر الفنانين العديد من الأغاني الوطنية منها الأغنية الشهيرة أيضاً (برَّع يا استعمار) وهي من كلمات ولحن وغناء الفنان الكبير محمد محسن عطروش:
برَّع يا استعمار برَّع
ولى الليل ليضويك التيار
تيار الحرية.. تيار القومية
برَّع يا استعمار برَّع
من أرض الأحرار برَّع
تيار الجبار خلى شعبي ثار
طيارتك يا استعمار ما تفزعني
وأنا ثابت والأنوار تضويني
ما ظلمك يا قرصان ايقظني
ولا سحرك بعد اليوم يعنيني
برَّع أقولك برَّع شعبي ما بيذعن
برَّع وارجع بلدك لندن
من كل قلبي
وللفنان الراحل أحمد بن أحمد قاسم العديد من الأغاني والأناشيد الوطنية والقومية الثائرة والتي تعد الرقم الأبرز في تاريخ الأغنية اليمنية الوطنية على الاحتلال إحدى هذه الأغاني هي (من كل قلبي) وتقول كلماتها:
من كل قلبي أحبك يا بلادي
وأفديك بروحي ودمي وأولادي
مهما أسافر وأغيب عن عيونك
بقلبي أحبك
بروحي أصونك
باسم هذا التراب
انطلق الفنان علي بن علي الآنسي يغني للمقاومة والكفاح ضد المستعمر في جنوب اليمن المحتل فغنى أغنية (باسم هذا التراب) وهي من كلمات الشاعر الغنائي صالح نصيب ولحن الفنان حسن عطا، وهما من أبناء لحج الخضيرة ملهباً الأسماع والمشاعر ومن كلماتها:
هذا يومكم يوم الشعوب
يوم أخذ الثأر بالدماء والنار
هيا يا أحرار نلحق الركب الأبي
إن في الثورة موتاً ومن الموت حياة
إن في الثورة نصراً تسمع الدنيا صداه
إنها ليست خيالاً فسألوا عنها جمال
فهو صناع الرجال وفتى قوميتي
فنانون عرب
وإضافة إلى الأدباء والفنانين اليمنيين فقد اشترك الفنانون العرب من مصر في دعم الثورة اليمنية وانطلقت من صنعاء عدد من الفعاليات الغنائية لعدد منهم، وقد صدح صوت الفنانة فايدة كمال لتشعل الثورة على الفساد وعلى الإمام وعلى المستعمر وكان من أبرز ما قدمته الأغنية الشهيرة «ثورة اليمن السعيد» وهي من ألحان الفنان محمود الشريف، ويقول مطلعها:
بالإرادة والعزيمة والجهاد
اليمن أشعلها ثورة على الفساد
ثورة بالنار والحديد
ثورة اليمن السعيد ثورة اليمن المجيد.
وهناك الكثير من الأغاني الوطنية التي لا يتسع المقام لذكرها ولا يختلف اثنان على أهميتها ودورها في نشر الوعي الثوري بين أبناء اليمن وعلى كامل الأرض اليمنية.
دور لا يستهان به
ولا يمكن أن يقال إلا أن الفن قد أدى دوراً لا يستهان به من خلال الأغنية الوطنية والقومية في الانتصار لكرامة الإنسان اليمني ليس من الاستعمار والاستبداد والظلم فقط بل وفي مختلف القضايا والظواهر الاجتماعية التي كانت تقف أمام تقدمه وتطوره ونهوضه.
ودأبت الأغنية الوطنية سواء في الداخل أو في الخارج على إثارة الهمم وإيقاظ الشعور المتدفق بروح الحماس لجعل يوم جلاء الاستعمار البريطاني في 30 نوفمبر 1967م يوماً عيدياً للاستقلال.