الرأسمالية كظاهرة مادية وكتطور اقتصادي استغلالي، في حالة تنابذ مع الأخلاق ومختلف السلوكيات المؤنسة والأعمال الإيمانية والدوافع الروحية. تسعى الرأسمالية لنقض الروحي والحلول محله. والصدقات المعروفة في الشريعة المحمدية ومختلف المشارب الدينية والأعراف البشرية هي إحدى هذه الممارسات التي تعمل الرأسمالية على تخريبها، وهذا الخراب بات واقعاً، وفي شهر رمضان أشد!
حينما شرع الله الصدقات فقد وضع لها ضوابط لحساسية أن تعطي إنساناً دون مقابل للتأثير النفسي عليه، وعلى المعطي الذي قد ينتابه الشعور بالتمنن، وفي ذلك يقول الحق: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى"، وجاء سيدنا محمد صلوات الله عليه وآله لتهذيب الصدقات قائلا فيما صح عنه مضمونا مع اختلاف الروايات: "ورجلٌ تصدَّق بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تعلم شمالُه ما تُنفق يمينه". كما روي عن سيدنا المسيح عليه وأمه السلام قوله: "فمتى صنعت صدقة فلا تصوّت قدامك بالبوق كما يفعل المراؤون في المجامع وفي الأزقة لكي يُمجدهم الناس".
الرياء في الصدقات هو الخطير، فاستكمالا للآية الكريمة السابقة يقول الحق سبحانه وتعالى: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}. وهذه الآية الكريمة أشد انطباقاً على واقع اليوم، فالرياء لم يعد فقط كجانب تشتهيه النفس كمصلحة معنوية، بل بات الرياء إلى جانب المصلحة المعنوية وسيلة إعلامية من أجل مصلحة مادية خدمة للتراكم المالي.
أمست الصدقات التي تقدم للفقراء والمساكين، وخاصة في شهر رمضان المبارك، وسيلة للترويج لدول وأنظمة ولرجال الأعمال ولأصحاب مشاريع وشركات ومنظمات وهيئات وبرامج تلفزيونية وقنوات وحملات "تطوعية خيرية" في ظاهرها... أما الكفر باليوم الآخر فلم يعد كفراً بالبعث والحساب، فمن يرائي في الصدقات من أجل مصلحة رأسمالية فهو يقوم بذلك لا يلقي بالاً للجزاء الأخروي ولا يقصد ما عند الله في نيته، فيكون حاله ممارسةً كمن يكفر بالبعث اعتقاداً.
تطورت تقنيات التصوير والإعلام والنشر وإطلاع الناس على أعمال بعضهم، فتطور الرياء والنفاق، حتى ليكاد الفقير المتعفف الذي يظنه الجاهل غنياً يُفضح ويُشهر به. كما أن تطور وسائل التواصل الاجتماعي ضاعف شهوات النفس في حب الشهرة والرياء، فالإنسان اليوم يُمكنه أن يعد بالأرقام كل من اطلعوا على عمله كمشاهدات على الفيديوهات و"إعجابات" على "المنشورات" و"التغريدات"!
هذا حال غالبية الصدقات والمتصدقين في واقعنا، ومازال هناك أصحاب إيمان وإنسانية وذوق يخفون عن الناس وعن المساكين أعمالهم ويقصدون وجه الله وخدمة الإنسان تقديراً لجوهره الإنساني.
* نقلا عن : لا ميديا