من أهم الكتابات التي أتابعها في مواقع التواصل الاجتماعي نصوص الكاتبة أشواق دومان،
قبل أن أتحدث عن موضوعي ومراتب الروح في نصوص أشواق دومان أريد أن أبين بعض ما تمتاز به بحيث نستدل من خلالها على أننا نقرأ لمبدعة لها صوت خاص وبصمات إبداعية خاصة، منها إفناء ذاتها وتقديم نفسها كهامش وأن ما تطرحه من مواضيع هي الأساس، بمعنى أنها صاحبة قضية.
ثانيها، عدم تصنعها وتكلفها في صياغة جملها الشعرية فمثلا حين تذكر زهر اللوز في قولها:
وهذا الفؤاد يضج حياة كما
ضج زهر اللوز براعم صغار
فهي تعني زهر اللوز الذي تعرفه وتراه ضمن أشياء موجودة في بيئتها، وليس كما يفعل بعض شعراء حينما يستخدم كلمات وأسماء ليست في محيطه وإنما يمارسون التقليد وادعاء الثقافة والحداثة، فقط يذكرونها من باب الفذلكة، كالذي يقول مثلا يا زهرة السنديان وهو لا يعرف السنديان وليست من أشجار البيئة التي يعيش فيها، فقط يقلد أو يسرق من شعراء الغرب بدون وعي.
الأصالة في الاستفادة من مظاهر وطابع الحياة في صنعاء تظهر في نص لصنعاء على هيئات وصور:
صنعاء كطعم الماء الممزوج ببخوره في جرة موضوعة في شباك الدار..
وفي:
ولو كتبت فمن للآلئ والعقيق.
حين تتحدث عن المواضيع التي تكتب عنها فهي تعني ذلك ولا تختار مواضيع ما، لمجرد أنها خطرت على بالها، لكي تنجز بذلك نصا شاعريا معبرا عن لحظة ما.. إنها تكتب عما ذكرت من أشياء داخل النص، وتتحدث عنها من صميم قلبها.. إنها أصدق الشاعرات برأيي حين تقول:
لا تستغرب حين سأكتب أني أكتب للروح الجارية بدمي.. لرؤاي.. لفكري.. لتفاصيل شجوني.. أكتب لله وللفقراء وللمحتاجين حروفا تنعش أفئدة في بحر فاق الأبحر لونا وصمودا.. عن وطن بمسيرته القرآنية الفضلى..
إلى آخر النص.. كل ما كتبته أشواق في هذا النص ليس ادعاء بل حقيقة وصدق.. وأنها تكتب عنه بذاته وبقصديته.
وفي النص السابق نفسه تبدو الروح جنة والفردوس جزءاً من هذه الجنة، وهذا الفردوس هو أمها.
في نص بديع لصنعاء يشعرك أنك تنظر إلى التاريخ من طاقة قصر لملكة سبئية تتجلى الروح كخلاصة لأشعار الأولين في وصف صنعاء بعبارة: "صنعاء يا راحة روحي يا اطمئناني يا كل هناء".
وهنا يتجلى البوح كتسبيح صادح يجوب الأرجاء صادر من مآذن في قلب الشاعرة.. إنه البعد الإيماني الذي تخبرنا به حروف أشواق وتريد إلقاءه على إصغاء قلوب العالم الذي يحن إلى أصوله في صنعاء.
وفي نص آخر، نجد مشهداً غاية في الذهول يصور احتراق غابات الروح حتى الرماد، وسياق الفقرة يحكي عن قلب مجروح أو محروق كما ورد في معنى النص بدلالة قولها أو تحسبني قطعة من حديد.
وفي نص بعنوان لسيدي عبدالملك، تظهر الروح كعازف أو كعاشق لمعزوفة هي كما أعتقد إطلالة السيد عبدالملك يلقي كلمة على شاشات التلفاز، حيث تقول: "ولو كتبت فدمي هو لون حبري وعزف روحي...".
وفي نص "من تكون" تتوالى الاستفسارات التي تجيب على نفسها في انبجاسات جمالية تولدت من انبجاسات قبلها نتيجة المفارقة وانفجاراتها الجمالية العظيمة في تناه بديع.. من تكون حتى تقول: مم تكون؟! وأين سكناك؛ فعمري سلام، وروحي بدور، وتلحين شعري فيك فنون.
تتجلى الروح كبدور، أي أقمار، وبديهي أن الأقمار تكون حول كوكب.. وهنا دلالة على أن الكوكب ليس الأرض لأنه بأكثر من قمر ولعله المريخ.. الذي تقصده.. والفائدة في هذا أن ذلك الكوكب شخص عزيز قد رحل عنها.. وبالتأكيد هو أبوها.. لأن أغلب مناجاتها لأبيها كما لاحظنا في نصوصها.. يا له من جد ويا له من عشق لا أستطيع وصفه، ولكنها تصفه في السطور التالية بتساؤل:
من أنت حتى تعتلي
قائمة العاشقين؟!
من أنت في النبض
تروي الحياة
كماء المزون؟!
يا لعذوبة مناجاتها.. في نص "أبتاه ومع الغروب" تستفتح النص بـ:
أبتاه: وتبقى الجرح
المفتوح بروحي...
فالروح قد يبدو للوهلة الأولى متموضعا في هذه الجملة الشعرية موضع القلب، لكنه في المجمل يصدر عنه ألم كبير فلا يوازيه في الألم ألم بعده.. والمتعمق في الجملة سيكتشف أنه نافذة قد يهب منها النسيم.. والنسيم هنا ذكرى تشعل دوحات كبيرة هو من زرعها وأنشأها وبالتالي رحل، ولأنها بنيان يديه فتذكار يديه هي من يتبنى عمليات إشعالها.
في نص بعنوان "في خلوة روحي.. (يا خفقة روحي)".
تتخذ الروح موضع النفس التي تنشد السكينة في الخلوة، وكذلك موضع القلب الذي يخفق.. أو أن الخلوة الهادئة نتج عنها وضوح بارز لخفقات الروح القلب.. وبذلك انزاحت جملة شعرية جميلة في السطر الثاني تقول:
"أتجزأ بين الطرقات"...
وفي النص بوح لاعج لطيف أبيها أيضا.
وتقول:
يا ظل حروفي المنقوشة في
كبدي مهلا..
لا تفتعلي في روحي الكربات...
والظل هنا يفهم أنه الخيال.. وفي افتعال الكربات، إشغال عن عمل مهم، يبدو أنه شغل كل شيء في البال. واحتلال الروح منصة العنوان ليس الأول في اشتغالات أشواق دومان، ففي النص التالي إفادة على اتخاذ الروح النصيب الأوفر من العناوين.
"روحي وأبي"
أليس ما قلناه آنفا صحيحاً.. فإن "روحي وأبي" عنوان في نص مستفتح بهذه الجملة:
رأيته في روحي التي غفت قليلا بعد طلوع الشمس ببدلته "البيج" وعلى رأسه "صمادة" وإن كان لا يضع على رأسه "صمادة" حين يلبس بدلة.
والشاهد الذي ينسجم مع موضوعنا في مقالنا هذا أن الروح مرآة.. مرآة خاصة لا ترى فيها إلا صورة أبيها.
في نص "سأبكيك بكل ما أوتيت":
لأنك روحي،
مقابر جرحي،
سناءات عطري،
وأحرف بوحي
فالروح هنا تعني أنه أغلى ما تملك.. ولكن لم أفهم هذه التركيبة "سناءات عطري".. هل تعني بها بنت أبيها الضوء..؟
في عباراتها الشعرية مفارقات عجيبة، ينتج عنها انزياحات شعرية بديعة. وطبعا في نصوصها الكثير من الومضات الشعرية البديعة، أشبه بالفرص الثمينة في كل مرة لا تلبث إلا اقتطافها سريعا والبناء عليها في عملية بناء النص في تلك اللحظة، وهذا يدل على قدرتها الفائقة على تفجير الكوامن الشعرية بأسلوب مذهل يعكس مدى الدقة في العمل الذي يشبه عمل النحلة في الخلية.
وفي نفس النص:
أبي
تفاصيل عمري،
تجاويد دهري،
وآهات روحي المثقلة الوجيعة.
الروح هنا مثقلة تصدر آهات.. والآهات طبيعيا ناتجة عن الوجع فعلا.. والذي نريده في هذه الفقرة أن أباها هي وهي أبوها.. إنها تعيشه ويعيشها كروح واحد.. ووجع واحد.
في هذه الرحلة القصيرة التي قضيناها في استكشاف معارج الروح في نصوص المبدعة أشواق دومان، يمكننا القول إنها شاعرة مميزة فعلا وشاعرة مبدعة روحانية شفافة أمينة في وضع الكلمة المناسبة للمعنى الذي تشعر به حقيقة وبحيث تؤدي صياغتها الدور المنوط للإيصال وبما يعالج قضية مهمة من وجهة نظرها والتي لا نشك مثقال ذرة أنها قضية ووجهة نظر إنسانية تمثل الجميع لكوننا عرفنا عنها إفناء ذاتها لأجل الكل وبتفان عال وبأداء دقيق ومشاعر صادقة.
* نقلا عن : لا ميديا