|
أوجاع عبدالحفيظ حسن الخزان في كتاب
بقلم/ يحيى اليازلي
نشر منذ: 3 سنوات و 5 أشهر و 30 يوماً الجمعة 18 يونيو-حزيران 2021 07:35 م
عندما لا تجد عيوبا في شاعر كامتلاكه أدوات الكتابة الشعرية والثقافة وقدرته على النظم والإدهاش والتصوير والإيصال وأنت القارئ الملم بالشعر وتاريخه، فإنك لا تجد بدا من أن تكتب إما عن مجاله الشعري الذي لا يجارى فيه والإضافة الإبداعية التي قدمها للشعر، وإما عن تأثيره والبصمة التي تركها، وإما أن تكشف عن كنز إبداعي نادر لديه.
بين يدي مجموعة شعرية جميلة بعنوان "أوجاع الوطن المسافر" للشاعر الكبير عبد الحفيظ حسن الخزان. وبصورة سريعة نختصر الحديث عنها. صدرت المجموعة في 2021، في غلاف أنيق من القطع المتوسط، في حوالى 370 صفحة. في الغلاف الأخير قصيدة للمؤلف مطلعها:
لأية وجهة ذهبت بلادي
وأنفس أهلها في كل وادِ؟!
أراها في احتضار الموت ويحي
وأحيا عابثا والأمر عادي
تهضرب في أكف الغول تأسى
وأبدو في المشاعر كالجماد
يشطر وجهها ساطور حقد
وتعبث في ضفائرها الأعادي
قصيدة الغلاف الأخير بدأت بسؤال، وهذا مما يعجبني في بدايات القصائد. الإنشاء ابتداء وبحيث يجعلها تبدو وكأنها امتداد لأبيات سابقة في حين أنه لم يسبقها شيء. وهذا أسلوب عبقري:
لأية وجهة ذهبت بلادي
وأنفس أهلها في كل واد؟!
نلاحظ في بداية المجموعة "وطن مسافر" وهناً، وفي آخر المجموعة نلاحظ "بلاد تذهب" هذا يجعلنا نريد أن نفهم الفرق بين الوطن والبلاد. فهل نعتمد لمعرفة الفرق على المعاجم أو ننبش أعماقنا ونتفلسف، أو نترك الأمر لنصوص مجموعة أوجاع الوطن المسافر لتعرفنا؟!
حسناً، في آخر المطاف قد نحصل على الفرق. وبالطبع إن غرضي من معرفة هذا أني لا أحب تفسير الوطن بالبلاد ولا أي كلمة بمرادفاتها، فعندي أن لكل لفظ في اللغة مدلوله الخاص به. وعندي أن الأستاذ عبدالحفيظ الخزان أكثر الشعراء دقة في اختيار كلماته.
ودعونا نقرأ المطلع من قصيدة الغلاف:
لأية وجهة ذهبت بلادي
وأنفس أهلها في كل واد؟!
الوجهة تعني أن ذهابها فكري أكثر منه جغرافيا. ولو كان جغرافيا تحديدا لقال لأي جهة. وبالتالي سيتبادر إلينا سؤال: هل الوجهة سياسية أو دنيوية أو دينية؟! وجواب هذا في عجز البيت... وأنفس أهلها في كل واد. عبارة الأنفس في كل واد توحي بأن أنفس أهل هذه البلاد النفيسة الذين هم أهل لإدارة هذه البلاد موجودون في كل مكان ولكنهم لم يتمكنوا من أداء المهام المناطة بهم أو أن الفرصة غير متاحة لهم. والقرينة قوله في كل واد. وفي السياق عبارة أو جملة بأثر قرآني معناها محال من الآية من سورة الشعراء "وأنهم في كل واد يهيمون"، والمقصود أنهم أهل فكر وليس أنهم يهيمون ويتبعهم الغاوون. وقد يعني في الوقت نفسه أن الأنفس قد ماتوا أو قتلوا وأن جثثهم مبعثرة في كل منطقة في البلاد. لكنه لا يريد ذلك تحديدا ولو أراد لقال ونفوس أهلها قتلى في كل واد. ما الذي سيمنعه من قولها، خصوصا وأنه في هذا الديوان بالذات لم يرد عمل صخب تصويري وترف شعري وأدب استعراضي، لأن المرحلة كما قلنا تريد هذه المباشرة وهذه القصدية، بعيدا عن الترميز والفهلوة الشعرية التي يمارسها شعراء الحداثة، مع تأكيدنا أن الحداثة في شعر الخزان في أرقى مراحلها؟!
الجدير ذكره أن هذه هي المجموعة الثالثة للشاعر عبدالحفيظ الخزان، حيث وقد صدر له من قبل مجموعتان أو بالأدق: ديوانان شعريان، هما "في هدوء النجوم" و"أشواق متوقدة".
الديوان أو بالأدق المجموعة الشعرية "أوجاع الوطن المسافر" تحتضن بين دفتيها تقريبا خمسين قصيدة. الكتاب غير مبوب وكأنه أسفار مقدسة، وبلا مقدمة تقريضية، وكأنه يقدم نفسه. ترتيب القصائد جاء بطريقة مناسبة وبعناية وكأنه لم يخضغ للتسلسل التاريخي أو الموضوعي، ولكنه عموما بديع.
وقد كتبت حول أعمال مجموعة معينة من الشعراء، ولكني حين أكتب عن الشاعر عبدالحفيظ الخزان فأني أكتب من صميم قلبي، فهو مبدع بكل ما تعنيه الكلمة، ويعجبني فيه شخصيا الالتزام والانضباط، في حياته وفي كتاباته، وتعلمت منه أشياء على الصعيد الروحي.
وحينما تكتب عن شاعر متمكن وممارس للكتابة الشعرية ويمتلك القدرة الفائقة على الإدهاش، متجاوزا حواجز كثيرة تؤكد استحقاقه الوصول إلى الصفوف الأولى بكفاءة واقتدار في مضمار الأدب بكل مجالاته، بما فيها النقد، فهو يوفر عليك جهدا كنت ستبذله لمعرفة تفاصيل التجربة.
لكني أؤكد أني هنا أحتفي بالديوان ولا أجري دراسة عليه الآن، لأن الاحتفاء بالكتب في وقت إصدارها جميل وله تأثير إيجابي كبير على معنويات المؤلف من جهة وعلى المشهد الثقافي من جهة أخرى.
لذلك سأقرأ البدايات من بعض النصوص، وأول نص بعنوان "سفر الأمنيات". هذا العنوان وعناوين بقية نصوص الديوان تبدو موضوعية أكثر منها شعرية، مع أن بين أبياتها عبارات شعرية بديعة، لكنه أراد هكذا، لأن المرحلة تستدعي الوضوح والبساطة والتلقائية، وإلا فإن ديوانيه الأول والثاني مليئان بالعناوين والعبارات الشعرية ذات السبك الخيالي.
يقول في قصيدة "سفر الأمنيات":
أنا مذ وعيت على الحياة
وأنا أنوء بذكرياتي.
إن ابتداء الشاعر النص بكلمة أنا، في حين أن عنوان الديوان "أوجاع الوطن المسافر"، يجعلك مطمئنا أن الشاعر عبدالحفيظ الخزان بما يحمل في قلبه من أوجاع الوطن بكله، يحق له أن يبتدئ القصيدة بـ"أنا" بل ويحق له أن يقول أنا أينما أراد، لأن سلبية الأنا تكمن في حالة أراد بها الشاعر نفسه من باب الاستئثار وتفضيل النفس على الآخرين، لكن الأمر هنا يختلف، ففي النصوص ما يؤكد على إفناء الشاعر ذاته لأجل الجميع.
أنا مذ وعيت على الحياة
وأنا أنوء بذكرياتي.
هذا يعني أن الوطن غارق في الآلام والأحزان منذ عقود، وهو فعلا ما تحكية أبيات النص إلى آخره. لكن الملفت في هذا البيت يحقق ما قلناه ذوبان ذات الشاعر في ذات الجميع:
ذوبت فيه ملامحي
وعصرت أجمل مفرداتي.
لأن الملامح كما أفهم هنا هي ربيع العمر وقوة الشباب الذي استهلك في سبيل الوطن. والمفردات توحي بالتضحية بالأهداف الخاصة في سبيل الأهداف العامة. والديوان بمجمله يمكن أن نقرأه من زوايا كثيرة، منها الجانب الثوري والجانب الفني والجانب الثقافي والعرفاني والفقهي و... و... وأعتقد أن الجانب الأخلاقي في شعره زاوية تستحق أن ندعو للنظر من خلالها، على أن كل قصائده فيها من الأخلاق جانب.
وهذا مطلع من قصيدة بعنوان "الأخلاق أساس"، يتفطر قلبه للوضع الذي وصلت إليه البلاد من مساوئ الأخلاق، وفيها دعوة لاتخاذ مكارم الأخلاق أساسا للحياة الكريمة:
في بلدي ما أشقى الناس
ينقصهم روح الإحساس
المفتي كطبيب نفسي
كالجندي خلف المتراس
في بلدي يتساوى كلب
مسعور وأعز الناس
أنفسهم ما فيها وطن
والهمة مثل الأقواس
يا جثث الموتى في بلدي
أحياء وبلا أنفاس
في بلدي ماذا في بلدي؟!
تعبيري يجرح يجرح كالفاس!
قصائد المجموعة كثيرة وتطرح وتعالج قضايا مهمة وبأسلوب عذب بديع ويجب قراءتها ودراستها.
وبإمكاننا هنا نشر مقطع هو المطلع من قصيدة تقع وسط المجموعة بعنوان "الخيواني في ذكراه الأولى"، وقد وجدت في إحدى فقراتها العبارة التي اختار منها عنوان المجموعة. يقول:
هذي الدماء عرفتها.. هذي الدماء
هي قطرة لا غير
من رأس أرفع هامة
حملت إباء الأرض والوطن الجريح
في غورها سكنت بلاد
وارتقت تهب البلاد الارتقاء.
هل تذكرون السؤال الذي تبادر إلينا آنفا: ما الفرق بين الوطن والبلاد؟ وقلنا إن إجابته ستأتي من بين سطور الديوان، ها قد وجدناها مطلع نص الخيواني، وتحديدا في قطرة الدم الوحيدة التي سالت من رأس أرفع هامة، فقطرة الدم حملت إباء الأرض والوطن الجريح، وفي غورها أي قطرة الدم سكنت بلاد. ومن هنا رأينا الوطن عند الشاعر عبدالحفيظ هو الأرض والإنسان بجراحه وشهدائه وإبائه وقضاياه... وأن البلاد هي ما سكن في الغور من دماء الرؤوس العالية والهامات الموفوعة وما تزال ترتقي في الأرض بارتقائهم في السماء.
المجموعة فيها قصائد رثاء لشخصيات وطنية مؤثرة وقصائد شعبية ثورية وتربوية وللمجتمع والعالم العربي والإسلامي والإنساني.
عندما قررت ألا أهتم بشطحات الحداثيين وإغراق المنظرين، وجدتني أكتب عن القيم الإنسانية ومكارم الأخلاق، ووجدتني أنظر إلى المعنى الحقيقي للغة وإلى مقاصد الفكر في بنيتها.
عندما أنتمي إلى وادي القداسة وأن التجرد هو الطقس الوحيد لأهل ذلك الوادي، وأن الطهارة أول مراحل الفلاح، وجدتني أكتب عن عبدالحفيظ الخزان، التقي في نفسه وأهله وأصحابه، النقي في فعله وقوله ونقله، الباسم في الوجوه من المحبة والإخاء الباكي على موت أشرف الرجال من كثر الوفاء.
هذي الدماء عرفتها
أرأيت حين تلألأت كالشهب
حين تألقت كالدر في هذا الرصيف
وسرت كإكسير الحياة
تزهو بروح مناضل حر شريف!
هي نعمة كبرى من الباري على من يصطفيه
هي طاقة عظمى تفيض كرامة
وتعلم الإنسان أسرار الدماء!
يا إلهي كم أنا في ذهول من هذا الكم الهائل من النقاء والصفاء والبهاء والعذوبة!
في هذه المقطوعة نجد معاني كثيرة لمكارم الأخلاق ولمكارم الروح.
"هذي الدماء عرفتها". عندي سؤال: هل بإمكاننا معرفة الدماء التي سالت من جسد إنسان ما؟! أو كيف عرف عبدالحفيظ الخزان الدماء التي سالت من رأس عبدالكريم الخيواني؟! وبكل صدق أشعر وهو يقول "هذي الدماء عرفتها" أنه يتحدث عن الخندق وبدر وكربلاء وزيد وجرف سلمان ومسجدي مركز بدر والحشحوش والجبهات... عن الجبري والملصي والمحطوري والقحوم وسعيد بن جبير وكل هذه الدماء التي عرفناها وما تزال تقطر في الذاكرة، وكأنها هي الدماء نفسها.
وعندي سؤال ثان: كيف يسميها دماء وهو يقول في بداية القصيدة "هي قطرة لا غير"؟! هل نقول عن قطرة دم واحدة إنها دماء؟! مفارقة عجيبة! أعتقد أنها القداسة التي في وعي الشاعر لقطرة الدم الواحدة جعلته يعدها كجميع الدماء. إننا إزاء رجل يقدس دماء الإنسانية بكل ما لديه من إيمان.
كل سطر في هذه الفقرة يمكنني الحديث عنه واستخراج كنوزه المعرفية باسترسال وبسهولة، ليس لأني كاتب خارق، ولكن لأني أنظر بتجرد وطهارة إلى ما وراء الكلمات.
ونأتي إلى قوله:
"وسرت كإكسير الحياة".
أي تستمر الحياة بفضل هذي الدماء.
ونأتي إلى:
"هي طاقة عظمى تفيض كرامة وتعلم الإنسان أسرار الدماء".
عندما يستثمر الشاعر طاقاته المعرفية في صياغة المعاني الشعرية، فالأستاذ عالم فيزياء ويعمل في التربية والتعليم، وقد وظف ذلك في هذه الجملة، فكانت من اللاوعي أجمل مما لو كانت بوعي، وجاءت بتلقائية أجمل مما لو كانت مفارقة بعناية..
* نقلا عن : لا ميديا |
|
|