"ألف يتمرد على الأبجدية"
الألف في كل لغات العالم هو الأول من حيث الترتيب ومن حيث الاستخدام ومن حيث كونه متوفراً في أبجديات اللغات كحرف مشترك يحتل مكانة عالية في التقديس بالمعنى اللغوي، فهو الأب الذي تنحدر منه الأبجدية وبعدة صور يأتي كرئيس للحروف وبه يستهل الكلام وتستأنف الأحاديث وتستلهم منه الأشعار. هو الواحد إذا ما وضعته بمقابل جدول الأرقام، والإمام إذا ما أردت له مكانة بين الأمة. وبالنسبة للشاعر علي جاحز فقد جعل من الألف مادته الخام التي صاغ بها قصيدته "ألف يتمرد على الأبجدية"، واستوحى منه بقية بقية الحروف، فكانت النتيجة هذه الأسطورة الشعرية التي تعد من أجمل قصائد المرحلة الحداثية التجديدية في اليمن والعالم العربي، وليس لها من توأم بالهندسة الوجدانية نفسها، غير الواحد في أغنيات بلون المكان، وكلاهما يشكل تخوم القصيدة الجديدة، ويمثل كلٌّ منهما نصف الكوكب الشعري الذي يقعان فيه ويشملان سكان شعره وعلى أن كليهما يمثل حالة وجدانية خاصة، ويؤثر ويثري بطريقته الخاصة.
"ألف استهل به قصيدة نثر ملغومة"
ملغومة بالطاقة الشعرية طبعا.
"ألف أغلق به أغاني مستهلكة"!
هنا تكمن أسرار الخلق الإبداعي
إنه يجيد السحر ويمارس الإدهاش، من وحي مخيلة تتسم بالجدة والتصور المختلف للجمال."
"ألف أشده فينكسر".
هنا يتجلى مشهد لرسام يقف أمام لوحاته ويمارس الرسم بالألف. الألف وحسب هو اللون الموجود الخلاق لدى الرسام، لكنه يبدع لوحاته فتظهر وكأنها مكتملة الألوان، وهنا يكمن الإبداع.
"ألف أغرسه في صخرة فيورق".
يعرض معجزاته اللدنية الخضراء النابتة في الصخر.
"ألف أطلقه في سماء موحشة فيتشظى أقمارا"!
آينشتاين في حالاته الشعرية المضيئة.
"وألف أحتفظ به لزمن لن يسمح لأي ألف أن ينتصب"!
احتكار للفحولة، والمعنى متعلق بالفحولة الشعرية طبعا.
"ألف لا معنى له يتناسل ليكمل فراغات في خطابات مملة".
هنا تأتي فكرة الولاية تظهر في جدلية التناسل والخطابات. ما من فائدة معرفية إلا متصلة بحقيقة الخلافة في تناسل عقيم على مستوى الطهارة وعلى مستوى العلم. يجب أن تكتمل جدلية الثورة والطهارة بالمعنى الاصطفائي، لكي تتحقق فكرة الانتشار الذي غايته التغيير. ما جدوى تكوم الناس في حين أن صيحة قد تفرقهم؟! هنا يجب قتل النفس في خبيئات الناس، بمعنى التوبة والأوبة، رفض ثقافة القطيع، وتحرر العقل الجمعي من سجون الرضوخ للحاكم.
الألف يحتل هواجس الأشياء وأشياء الهاجس لدى علي جاحز.
"يطل من أبواق مزعجة لينبح الجياع..
يهمس في الفراغ فتصفق الحجارة"!
وطبعا التصفيق في الغالب دلالة على تمجيد الساسة.
"ألف يتمطى ليصل إلى همزة نائمة على الرصيف"!
هذه دلالة على محاولة الألف استعادة مكانه الديني في المجتمع ففي الهمزة إشارة إلى العمامة والتي حيل سياسيا بين الإمام وبينها. إنها نائمة على الرصيف، بين أوراق الكتب المعروضة للبيع على الأرصفة، عند مجتمع تم تضليله وطمس وعيه عن المفهوم الحقيقي للولاية، في حين أن المكتبات الفارهة تزخر بكتب مضللة تدعي أن الحاكم مقدس في حين أنه مجرد ذراع يتبع الطغيان والاستبداد في الخارج، وبالتالي فإن الحديث عن إمارة إيمانية في هذا المناخ المزيف أشبه باحتراق سجارة بين شفتي مدخن، وخاصة في ظل الغزو الفكري المسيطر على العقول.
"العبارات التي تؤرق السطور
لم تعد صالحة للإدهاش
هكذا صار القول باردا..
أشباح الأفلام السينمائية تسكن الآن
أمسيات الأطفال، وتطل في أحلامهم القلقة
في قصيدة قابلة للاكتمال
ألف يقف وحيدا على قمة إيفرست
يلعن الحرب".
*
"أغنيات بلون المكان"
وفي حين يذهب الألف متمردا على الفضاء في قصيدة "ألف يتمرد على الأبجدية"، يقف الواحد صادحا بأغانيات بلون المكان، في معادلة تثبت القدرة على إحداث توازن وجداني في الوعي، بحيث أن ثمة نقطة التقاء دوما في كل معادلاته الشعرية وحتى الفكرية، وأن ثمة منطقة وسطى لا تعني البينية بقدر ما تشير إلى مقام هو الأفضل ويجب انتهاجه في نهاية المطاف. هذه النتيجة الحتمية ليست موثقة بكلمات في طيات الإضبارة النصية بقدر ما يستطيع المتلقي استشفافها في وعيه من تلك الملاحم الأسطورية التي لعبها كلٌّ من الألف في المدار الأبجدي والواحد في المدار الرقمي.
وغالبا ما يهيمن على القاعدة المعرفية اقتران هذين الكيانين المعرفيين، فيمكن بواسطة ذلك الاقتران تجلي الحقائق من عالم الميتافيزقيا وعالم الوجود، رغم وقوع كل منهما في فلكه الخاص ويسبح كل منهما في مداره، ولكن يمكنك اكتشاف ذلك الاقتران في الوعي من نتيجة معراجك في كل منهما على حدة.
"واحد
والمدنية مشغولة بالغبار
ارتمت في قضية أمس قديم،
يحدق خارج طاولة حائرة".
من هنا ومن أول فقرة في قصيدة "الواحد" نجد أنفسنا في مدار سياسي وللوهلة الأولى، نحن إزاء مدينة، وقضية، وتاريخ، وطاولة... بالتأكيد لن تكون شيئا غير طاولة حوار.
"واحد
يغتلي رغبة في التهام الحياة
استمال الوجود لديه الفضول
وتيمه السير في مهمه الوقت
يقتات خبز الكلام"!
"البلاد التي أغلقت دون أجيالها
باب أحلامهم
وابتنت حاجزا في حناياهمو
حائلا دون أرواحهم والحياة
على طيف تاريخها علقت حلمه:
كن كما أنت
لا تبرح الأمس
لا تترك الوقت يقتاد عمر انتمائك
صوب الضجيج
توقف سيلقي بك الغد في بحره"!
نلاحظ إيغالا في إحباط الواحد إلى حد مثير للشفقة. إنه يتعرض لإقصاء سياسي ووظيفي وتاريخي، وبصورة تجعله يكاد يقتنع بأن عليه أن يبقى في وضع شارد.
كل ما يتلقاه الواحد من معاناة وظلم وسيطرة على وجدانه سيحتم على الألف الثورة والتمرد على كل هذه الأنماط المحبطة والتعيسة.
"المدى ضيق دائري
طموح إلى الأمس يهفو
على بعض أطلال أمجادهم واقفون
أيأتي الذي لفه الوقت في طيه ذات وقت؟!
وهل يستعيد الصدى قائل؟!
قالها واحد
وامتطى صهوة الحرف
في كفه روحه:
يا رياح ابرزي
عاكسي!
تستحيل الرياح شظايا على صخرة
ويمد المدى راحتيه لأسفاره النافرة".
كل ذلك لكن لاحظ عبارة "قالها واحد" تستشف مدى الإحباط.
ولاحظ كيف أن القصيدة الواحدية التي تعتمل فيها افتراضات الهاجس تفعيلة مدورة. بالمقابل فإن القصيدة الألفية المتمردة نثرية لا قبل لتفعيلة بتقييدها ولو بقافية. يا له من مدار أبجدي نثري بالمفردة موزون بالمعنى! أنا لا أنحاز لهذا المنحى النثري طبعا، ولكن قدرة الشاعر على جعلها نثرية ملغومة بالتفاعلات موزونة بالمعنى هو ما أثارني وأثر بي لهذا الاستحسان.
"واحد يرقب العالم الآن من ثقبه
لا يرى في الضجيج سوى نقع مأساته
ليس يسمع إلا أنين الفضيلة
أو قهقهات المكائد
يوغل شيئا فشيئا
فيرتد من عمق مستنقع
عالم
يأكل الآدمية، يصقل ألوانه
ناصع
والجراثيم في جوفه ناخرة".
في حين أن ذاك المتمرد الأبجدي يسرح ويمرح خارج القواعد ويسبح خارج القيود والأطر، تتوقف حركة هذا الواحد على مراقبة العالم من ثقبه، متوجسا مرتابا من عالم يأكل الآدمية ويصقل أدواته المرعبة والناصعة في آن.
لكي تتحقق لدينا ونستيقن أن لا بد من أن نعيش في عالم مليء بالمتناقضات، فلن تكتمل معرفتنا بالأشياء وغايات وجودها إلا بها.
* نقلا عن : لا ميديا