تكتسب الحرب الوجودية مع الاحتلال والتوسع الاستعماري الصهيوني في منطقتنا العربية الإسلامية طابعاً مزدوجاً، عسكرياً واقتصادياً، تفرضه المرحلة التاريخية، ولم يكن وارداً في أي من المراحل السابقة من الصراع الإسلامي مع الصهيونية المسيحية طوال الحروب الصليبية واحتلال فلسطين والقدس.
الحرب مع الصهيونية المعاصرة إلى جانب كونها حرباً ضد الاحتلال كوجود استيطاني غريب (استعمار قديم) فهي أيضاً حرب ضد وجود استعماري غربي (استعمار جديد)، ما يعني أنها حرب ضد المستوطنة وضد الرأسمالية الاحتكارية في آن معاً، وهو ما يُحتم أن يكون كل مُعادٍ للصهيونية معادياً للرأسمال الاحتكاري الغربي الصهيوني الذي يسيطر على اقتصاد بلدان العالم الإسلامي.
تحالف الحركة الصهيونية العالمية والرأسمالية العالمية، مطلع القرن العشرين، تولد عنه زراعة الكيان الصهيوني في العالم العربي الإسلامي. ويُمثل الكيان الصهيوني رأس حربة للمشروع الغربي في المنطقة، وقد أعطيت له مهمة حماية المصالح الاستعمارية الغربية البريطانية ثم الأمريكية، من حقول نفط وغاز ومصادر مياه عذبة وممرات بحرية استراتيجية، إلى جانب مهمة تخريبية تهدف إلى إعاقة أي نمو ونهوض اقتصادي عربي في القطاع الزراعي والصناعي، لتظل بلدان المنطقة مجرد أسواق مفتوحة للسلع الغربية ـ اليهودية الصهيونية، ومصادر للموارد تنهب كمواد خام وتعود سلعاً للاستهلاك.
المقاطعة الاقتصادية موقف متقدم في الصراع
الطابع الرأسمالي الاحتكاري للوجود الصهيوني في المنطقة هو ما يعطي مسألة المقاطعة الاقتصادية أهمية جوهرية في الصراع معه، فالمقاطعة الاقتصادية للسلع الصهيونية ـ الأمريكية المشتركة (ومعظم ملاك الشركات الاحتكارية العابرة للأوطان في أمريكا والعالم يهود) ليست مجرد عقوبة اقتصادية على خصم، وهو ما قد تقوم به أي دولة ضد أخرى في حالة الخلافات. على النقيض من ذلك فالمقاطعة الاقتصادية للكيان الصهيوني تمثل ضرباً مباشراً لجوهر وجوده الاستعماري الجديد، أي لطبيعته الاقتصادية كبلد يمثل مركزاً رأسمالياً في المنطقة ويسعى ليكون هو محور النشاط الاقتصادي في المنطقة، المركز الصناعي التكنولوجي الطاقي المتقدم، وحوله دول متخلفة تعطيه المواد الخام وتشتري السلع الجاهزة. كما أنها تمثل رفضاً للوجود الصهيوني في ذاته، فرفض الجزء (السلع الصهيونية) هو رفض للكل (الوجود الاحتلالي الصهيوني)، وتمثل المقاطعة الاقتصادية ساحة مواجهة مستمرة شعبية مؤثرة يومياً، تتجاوز مواقف الحكومات العميلة التي مضت وتمضي في ركب التطبيع، فبدون دخول السلع الصهيونية للأسواق المحلية وهيمنتها الاقتصادية يظل التطبيع الرسمي سياسيا وأمنياً ناقصاً.
انزعاج الأمريكي يثبت أهمية الموقف الشعبي اليمني
من هذه الأهمية جاءت لغة الأمر الأمريكية لنظام الوصاية في عهد رئاسة الخائن علي عبد الله صالح، بإلزام اليمن التنصل عن الموقف العربي المقاطع للكيان الصهيوني وعدم التفاعل مع مكتب المقاطعة العربي في دمشق، والتساهل مع دخول السلع الصهيونية إلى الأسواق المحلية، فهذه المساعي الصهيونية للسيطرة على الاقتصاد اليمني كانت تمر بالتوازي مع السيطرة الأمريكية الغربية على النفط والغاز اليمني كمشروع غربي واحد، فالأمريكي والصهيوني وجود استعماري صهيوني واحد، وكان نظام الوصاية العفاشي الإخواني قابلاً بذلك.
الانزعاج الصهيوني الأمريكي من مقاطعة الشعب اليمني للسلع الصهيونية كما هو مثبت في الوثائق التي نشرتها وزارة الإعلام اليمنية يبين مدى تأثير المقاطعة على الكيان الصهيوني، في المقام الاقتصادي أساساً، وفي المستوى الاجتماعي، فرفض السلع الصهيونية ومقاطعتها يعني رفض الوجود الصهيوني في المنطقة وعدم الاعتراف به، في حين كان نظام "صالح" يعمل على مد خطوط التطبيع السياسي والأمني مع كيان الاحتلال الصهيوني. ولولا موقف المقاطعة الشعبية اليمنية التي أظهرت موقف الشعب اليمني الإسلامي والوطني والقومي تجاه كيان الاحتلال لكان علي صالح قام بالتطبيع علناً.
المقاطعة الاقتصادية كفيلة بإسقاط مشروع "صفقة القرن"
البنود الاقتصادية المنشورة في ما سميت "صفقة القرن" تشير بكل وضوح إلى المطامع الاقتصادية الرأسمالية الاحتكارية للكيان الصهيوني، في أن يُصبح هو قطب فلك الاقتصاد والعلم والمعرفة والطاقة في المنطقة، وتلحق اقتصادات البلدان العربية الإسلامية والأفريقية به كاقتصادات تابعة مرتهنة، في استعمار جديد أشد خطورة من الاستعمار القديم البريطاني الفرنسي الإيطالي الذي كان بالإمكان إخراجه عبر حرب تحرير شعبية.
وهذه البنود ليست نتاجاً لوثيقة "صفقة القرن"، بل هي مخططات ومسارات عمل قديمة ومستمرة، فحتى لو فشلت "صفقة القرن" في جوانبها السياسية وما تعلق بالأرض فإن المسارات الاقتصادية مستمرة.
إن المقاطعة الاقتصادية هي ضرورة تحررية وتنموية وقضية وطنية وقومية والتزام ديني لكل دول وشعوب المنطقة، وليست محصورة فقط في دول الطوق (مصر، الأردن، سورية، لبنان)، فالتأثير العسكري الصهيوني المباشر ربما يمس فقط دول الطوق، أما الاستعمار الاقتصادي فهو يشمل كل دول المنطقة العربية الإسلامية ويصل إلى دول في قارة أفريقيا.
الشعب الفلسطيني في مقدمة من عليهم الالتزام بالمقاطعة الاقتصادية للكيان الصهيوني، فبناءً على اتفاقية "أوسلو" الخيانية وملحقاتها وبرتوكولاتها، أصبح الاقتصاد الفلسطيني قانونياً تابعاً وملحقاً تاماً بالاقتصاد الصهيوني، وهو كذلك في الواقع، فالفلسطيني في الأراضي المحتلة يبحث عن فرصة عمل في بناء المستوطنات، ويدفع فاتورة الكهرباء إلى وزارة المالية الصهيونية، وتشكل السلع الصهيونية النسبة الأكبر في منزله من الأثاث إلى المواد الغذائية.
* نقلا عن : لا ميديا