الإصغاء إلى صوت الداخل
يحيى محمد شرف الدين، شاعر يمني مبدع من شعراء صنعاء، جذوره من مدينة كوكبان، مدينة الشعر والإنشاد والتراث، يكتب الشعر بأنواعه، مناهض للعدوان، وهو صوت مميز، يحاول ألا يشبه أحدا من جيله، لكنه لا ينفصل عنه، يحب المجاراة ومتفاعل مع المشهد الشعري اليمني، ويشتغل على قصيدته بهدوء.
السائد عند الجميع أن فن الإلقاء لا علاقة له بالنص، ولكنه يضيف إلى النص جمالية خاصة لحظات إلقائه، ولكني أعتقد أن إجادة الشاعر إلقاء قصيدته بفن لها دور كبير في كتابة قصائده بصورة جميلة ومميزة، وعلى إثر ذلك فحين يكتب القصيدة يكتبها مستمعا إلى نفسه كصوت آت من أقصى الروح، يسمع صوته يوحي له كلمات القصيدة كأنه كاهن في معبد قديم.
وقديما قالوا لولا هبيد ما عاش لبيد..
وقال شاعر قديم:
''إني وكل شاعر من البشر
شيطانه أنثى وشيطاني ذكر''
هذا الصوت وذاك في الشاعر الجاهلي الفصيح هو ذاته الصوت في الشاعر الشعبي الحديث، ولكنه في ثقافة الشاعر القديم صوت من الجن، وهو في ثقافة الشاعر الشعبي المعاصر الهاجس.
وليس هذا متعلق بالقصيدة فقط، ولكنه ينطبق على كل الفنون الكتابية.. فالروائي يستمع إلى نفسه أثناء كتابته الحوار، وكلما كان أداؤه جميلاً كان بناؤه بديعاً ومشبعاً بخفايا النفس ومكنوناتها الجمالية.
إن الحس الشعري موجود عند الروائي بنفس قدر الحس الحكائي لدى الشاعر، بمعنى أن كلاً من الروائي والشاعر يملك نفس القدرة على الاستماع للصوت الصادر من داخله وترجمته بأسلوب شعري وحكائي في الوقت نفسه.. وهذا نجده على سبيل المثال في قصيدة ''محشر المقتضين'' للرائي عبدالله البردوني. القصيدة التي جمعت بين فن الشعر والدراما، والمهم في هذا وذاك أن صوتا في أعماق المبدع قادماً من أقاصي الروح يستمع إليه المبدع في نفسه فيكتبه على الورق.
هذا بالنسبة للأدباء الذين لم تترجم أعمالهم إلى لوحات فنية، الشعراء الذين لم تغن قصائدهم، والقاصون الذين لم تحول أعمالهم إلى أفلام سينمائية أو مسلسلات تلفزيونية، فيكتبون النص مستوحى من أصواتهم بقدر قوتها وجمالها، وأما من سمعوا أعمالهم مترجمة، أي قصائدهم مغناة وقصصهم ممثلة، هم نوعان، الأول: مبتدئ سيبدأ بكتابة نصه من واقع إيحاء صوت يشبه صوت الممثل والفنان، والثاني: خبير سيغض النظر عن كل الأصوات التي تترجع بين جدران ذاكرته، ويصغي إلى إيحاء نفسه، هذا الأخير هو الذي يستطيع الوصول إلى مرحلة التميز، والصوت المختلف، وإن كان في إطار موجة هي أقرب ما تكون إلى التجاور أو التشابه.
قوة القوة
"شعبنا صاحي سلاحه والجهاد شأوه
يفتدي طاهر ترابه يفتدي جوّه
قوّةَ القوّة أمانة قوّةَ القوّة
شعب مؤمن شعب واعي خيرة الصفوة
أصل سامي من جذور المجد والنخوة
قوّةَ القوّة أمانة قوّةَ القوّة
يتّبع قرآن ربي والهدى سلوه
يمتشق حد الولاية فالولا شجوه
قوّةَ القوّة أمانة قوّةَ القوّة
من يريد يعتز يلّه يحتذي حذوه
شل لك من نور ناره شل لك جذوه
قوّةَ القوّة أمانة قوّةَ القوّة
في الفضايل كم تغنّى مثّل القدوة
واعتلى صدر المعالي يمقتَ الغفوة
قوّةَ القوّة أمانة قوّةَ القوّة
رافع الهامة مِقَنّف صادق الخطوة
في خطى الأعلام يمضي ينتشي نشوة
قوّةَ القوّة أمانة قوّةَ القوّة
قد تسيّد في الشجاعة قد سرى ضوّه
في حواضر أرض يعرب أو قُرَى بدوة
قوّةَ القوّة أمانة قوّةَ القوّة
قد تِبَرّا من عدوّه وانتقم غزوة
مستعين بالله وحده مالك القوّة
قوّةَ القوّة أمانة قوّةَ القوّة"
لم أعرض هذه القصيدة الهائية مزاجيا ولا لأن ما سواها من قصائده أقل جودة، ولكن لأني ميزت فيها صوت يحيى شرف الدين، مبدعا، 'قصيدة "قوة القوة''، حينما تقرأها تشعر أنها لا تحتاج إلى منشد ليؤديها ملحنة أو مموسقة، فهي مموسقة جاهزة، وتقرأها فتحدث في داخلك سيمفونية بديعة وتسمع كأن ثمة أصوات محاربين قدامى يرددونها معك.
وهي قصيدة تحفيزية شعبية حماسية موضوعها الولاية والجهاد تتكرر فيها قافية الهاء في شطر البيت وعجزه إلى نهاية القصيدة، ويتكرر شطر "قوّةَ القوّة أمانة قوّةَ القوّة" بعد كل بيت. وبالرغم من هذا التكرار إلا أنها لا تمل ولا تستطاب إلا بذلك التكرار، وهي وإن كانت اللازمة مطروقة من قبل إلا أنه سواء من باب المجاراة أو الاقتباس فقد كتب يحيى شرف الدين قصيدته هذه بنفس مختلف.
يحيى شرف الدين يراعي في بناء قصائده المواءمة بين فصاحة اللغة وعامية اللهجة كدأب شعراء كوكبان الذين اشتهروا بهذا اللون من الشعر، وسواء كانت قصيدته غزلية أو حربية ستجده يكتبها بالأسلوب الحميني، ووجدت قصائده الفصحى سهلة قريبة من العامة كقربها من النخبة:
"كل يوم في صبحه يتباهى
وتراهُ شمسُ الضحى ويراها
غير يومي أطل من غير شمسٍ
جاء مسخاً مجرداً من سناها
جاء ليلاً، بل جاء صبحاً مخيفاً
يسفكُ الروحَ من وريد ضياها"
إنه يكتب قصيدة الحرب وقصيدة الغزل في نفس الأجواء، كدلالة على فروسيته الشعرية.
كتب القصيدة المناهضة للعدوان:
''في مأربٍ جيشُ النّمارة والسباع
سيحرر الآفاق من رجس الضباع
جيشٌ تعشّق صافناتِ العزّ والـ
ـمجد المكين وكلَّ مكرمة تذاع
جيشٌ من الله الكريم شَرَى جِنَا
نَ الخالدين وروحَه لله باع''
وكتب قصيدة الحب:
"يا حلوتي سحر الشفاه أصابا
وأسالَ من صمت الشعور خطابا
يا حلوتي ماذا فعلت بخافق
أضحت به مدن الغرام يبابا
أسكنتِهِ في عالم للعشق مُذ
أرسلتِ من تلك العيون شهابا"
وفي قصيدة "صرخات الانتفاضة" نرى مشاعر متأججة تضطرم في صور معبرة بحرقة عن معاناة الشعب الفلسطيني وتغتلي أبياته بالأسى ملء عينيه وقلبه:
"إنه الأقصى ينادي والأسى
ملء عينيه صباحا ومسا
يطلق الصرخات في بوق الرجا
كي يلاقي غيث سمع وعسى
يتلوى في لظى من ألم
ذرف العين دما منبجسا"
وفي القصيدة التي رثى فيها والده استطاع يحيى أن يلامس أغوار الوجع في أعماقي وبلغ أقاصي الحزن مني منشئا في القلب كمجالس البكاء، وكدت أذرف الدموع وأنا أقرأ مرثاته، متخيلا حجم المأساة التي تركها رحيل أبيه في حياته، وتحسست خرائب روحه كأنها في صدري، لقد بكى برحيله الشعر دما، وتغيرت أبحاره وتعندمت ألوانه، ولبس الحداد أسحم الأثواب:
"وتغيرت أبحاره من فعل ما
قد حرق الحزن القلوب وأضرما
وتعندمت ألوانه وتخيرت
أعطافه ثوب الحداد الأسحما"
وتساءل:
"يا والدي هل كان موتك غير زلزلة
أتت لتحيل طعم العيش بعدك علقما"
وتخيلت الشاعر وهو يقول:
"ها قد أوينا فوق قمة صبرنا
قلنا عسى يا والدي أن تعصما"
تخيلته يقف على قمة جبل صبر ثم تخيلت كم هو شاهق ارتفاع جبل الصبر الذي يقف عليه فينظر إلى أقاصي الأرض وعلى امتداد الأفق، ينتظر لحظة ظهور والده من بعيد:
"هلا تزور للحظة يا والدي
ثل البعاد بنا القلوب وثلما"
ثم نقلنا الشاعر إلى مشهد أكثر غربة وتساؤلا:
"يا والدي ما للصباح إذا أتى
من بعد أن فارقت يبدو مظلما؟!"
ثم يمضي الشاعر واصفا حجم البلاء الذي خلفه رحيل والده.. لقد أفلت الشموس وأضنيت القلوب بذلك الرحيل والفقدان، وغربت عن النواظر ملامح الابتسامة وتهدمت جدران الوصال.
* نقلا عن : لا ميديا