بنظرة بانورامية لمشهد المنطقة من بحر البلطيق مروراً بأفغانستان نحو بحر قزوين وجنوب القوقاز إلى قوى ودول محور المقاومة، وكأن العدوين اللدودين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا كلا مع حلفائه، وخاصة بعد قمة "بوتين ـ بايدن" في يونيو/ حزيران الماضي على رقعة شطرنج المنطقة يعيدان ترتيب أحجارهما وتنضيد ملفاتهما قبل الجلوس إلى طاولة التسويات الكبرى، والتي قد تحسم قبل الوصول إليها إذا تدحرجت المنطقة نحو حرب كبرى شاملة، نستبعد حدوثها وفق الوقائع والمعطيات لدى المحورين.
بدأت الولايات المتحدة وضمن مخطط الخروج الأمريكي من غرب آسيا بإعادة تموضع استراتيجي جديد بترتيب مجموعة من الأوراق في عهد إدارة ترامب السابقة بما يحقق نشر الفتنة وزعزعة الاستقرار، وتطويق إيران وتشديد الحصار الدبلوماسي والاقتصادي، وعرقلة مشروع الحزام والطريق الصيني، وضمان الأمن القومي لكيان الاحتلال الصهيوني، فكانت البداية مع اتفاقيات "إبراهام"، التطبيعية بين كيان الاحتلال وبعض الأنظمة الخليجية كالإمارات والبحرين بالإضافة إلى السودان الذي لم يوقع أحرفها النهائية والمغرب، استكمالا لسيناريو "صفقة القرن"، ونقل السفارة الأمريكية من "تل أبيب" إلى القدس، والاعتراف بالسيادة "الإسرائيلية" على الجولان المحتل، بهدف إضفاء الشرعية على كيان الاحتلال، وتطويق الشعب الفلسطيني، وتصفية القضية الفلسطينية التي باتت عبئاً على الأنظمة الرجعية العربية وينبغي التخلص منها، بالإضافة لنسج تحالفات إقليمية بأبعاد استراتيجية أخرى ترتبط بمحاولة بناء خطوط دفاع أمامية لحماية الأمن القومي لكيان الاحتلال، ترتكز على التعاون والتنسيق التكنولوجي والاستخباراتي والعسكري، خاصة إذا ما تضمنت عمليات رصد واعتراض جوي في مواجهة تطور قدرات محور المقاومة على مستوى الطائرات المسيرة، وصواريخ "كروز" وغيرها وفق ما تؤكده التقارير "الإسرائيلية”.
وتعززت الحاجة إلى هذا المخطط، بالإضافة إلى قرار وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) بنقل "إسرائيل" من القيادة الأوروبية للجيش الأمريكي "ايكوم" إلى القيادة المركزية "سنتكوم" التي تشمل "الشرق الأوسط"، بما يسمح بتطور التنسيق بين الكيان الصهيوني والأنظمة المطبعة استجابة لدعوات وجهتها جماعات موالية لـ"إسرائيل" من بينها "المعهد اليهودي للأمن القومي الأمريكي"، الذي أوضح في تقرير له أنه في حين أدى وجود "إسرائيل" ضمن نطاق عمليات القيادة العسكرية في أوروبا إلى منافع متبادلة واضحة على مر السنين، فإن أولوية "سنتكوم" هي "مواجهة إيران وقوى التطرف الأخرى في الشرق الأوسط". وأضاف التقرير: "جميع شركائنا في المنطقة، بما في ذلك إسرائيل، يتحدون حول وجهة نظر مشتركة لهذا التهديد، واتخاذ خطوات جريئة مثل الاتفاقيات الإبراهامية لمواجهته بشكل تعاوني”.
وأتى هذا الانضمام عقب إعلان السعودية، في 5 يناير/ كانون الثاني من العام الجاري، اتفاقاً بدعم أمريكي بإنهاء الخلاف مع قطر التي تستضيف أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في المنطقة، وتتمركز فيها القيادة المركزية الأمريكية، وبالتالي سيتمثل ذلك بدايةً بوجود عسكري "إسرائيلي" في بلدان الأنظمة المطبعة بوفود من الضباط أو الشرطة أو الخلايا الاستخبارية، وذلك في ضوء استمرار المسار التصاعدي لمحور المقاومة في اتجاهين، اتساع نطاقه الجغرافي وتقدمه العسكري، مقابل فقدان الكيان الصهيوني للعمق الاستراتيجي، ودونية إمكاناته على غير مستوى. وما ضاعف هذه الحاجة أيضاً فشل رهانات كيان الاحتلال على الخطط الأمريكية لإسقاط النظام في إيران أو إخضاعه، كما الفشل في باقي ساحات محور المقاومة، وهذا ما تضمنته تصريحات قائد جبهة إيران اللواء طال كالمان، "رئيس الشعبة الاستراتيجية والدائرة الثالثة"، مع صحيفة "معاريف" الشهر الماضي: "الأمر المدهش أنه على الرغم من الأثمان الثقيلة على المواطن الإيراني، والعقوبات الأمريكية الثقيلة، والكورونا، والحضيض الاقتصادي الداخلي الأصعب في إيران منذ الحرب مع العراق في سنوات الثمانينيات، إلا أنها تواصل سعيها لتنفيذ استراتيجيتها”. وتابع بأن "محور المقاومة أخذ بالتوسع ويخوض معنا تنافساً استراتيجياً بعيد المدى". كما أضاف أن "هذا التعاون يستهدف توفير الحماية لإسرائيل في مواجهة تطور القدرات العسكرية الصاروخية والجوية لمحور المقاومة". وحذر كالمان من أن "تهديد الصواريخ الدقيقة ليس بمستوى التهديد الوجودي النووي، لكنه ليس بعيداً عنه". ونبّه إلى أن الصواريخ الدقيقة ليست حكراً على "حزب الله" في لبنان، بل هي تهديد تراكمي يشمل كل ساحات الحرب، مقراً بأن لدى إيران مخزوناً كبيراً من القدرات الصاروخية التي تتحول إلى دقيقة بمديات تتجاوز الـ1000 كم، إضافة إلى تهديدات مماثلة في اليمن والعراق وسورية، ولذلك يجب توسيع قوس المواجهة ضد إيران، ووفق ما سبق يتمكن كيان الاحتلال من الولوج العملياتي بدون قيود في البر والبحر، وبإمكانه إرسال سفنه إلى البحر الأحمر وبحر العرب وحتى الاقتراب من خليج عُمان.
استمرت الإدارة الأمريكية الحالية على نهج سلفها لاستكمال ترتيب أوراق أجندتها، وبخطوات متسارعة بعد قمة جنيف "بوتين- بايدن"، وفق التالي:
1- انسحبت من أفغانستان بمشهد مذل بعد أن أعادت إنتاج "داعش" وتدعيمه وتعزيزه بنقل عناصر إضافية لرفده من سورية والعراق، لضمان نشر الفوضى وتقويض الاستقرار الأمني، وخاصة بعد سيطرة حركة "طالبان" على الحكم في أفغانستان، فبدأت هذه الحركة التكفيرية الوهابية "داعش" بتفجير المساجد والحسينيات والمدارس... إلخ، قتلاً وذبحاً للأبرياء في مسلسل متواصل حيثما وجد مسلمون من طوائف متعددة، لزرع الفتنة المذهبية بأجندة تديرها الولايات المتحدة لنشر الإرهاب والفوضى، بما يقوض شراكة الصين مع الدول المجاورة ويعمل على تخريب مبادرة الحزام والطريق بكامل فروعها، ويهدد دول الجوار بتمدد الإرهاب إلى داخلها.
2- حدوث توترات بين إيران وأذربيجان اللتين تجمعهما قواسم ثقافية واجتماعية ودينية، مع عبث تركي وحضور "إسرائيلي"، الهدف منها وفقاً للمايسترو الأمريكي:
ـ عزل إيران عن المنطقة، من خلال منع استخدام الأراضي الإيرانية لربط منطقة نخجوان بأذربيجان، ما يعني قطع الاتصال الحدودي بين إيران وأرمينيا، وبالتالي قطع إحدى طرق المواصلات بين إيران وأوروبا.
ـ ربط تركيا (العضو في الناتو) ببحر قزوين عبر أذربيجان، وبالتالي توسيع حدود الناتو حتى بحر قزوين، بما يؤدي إلى تغيرات جيوسياسية في منطقة القوقاز، لن تسمح بها إيران ولجارتها الشمالية الغربية تركيا بالبدء بهذه المغامرة وتعميق هذه التوترات.
ـ تواجد قوات "إسرائيلية" وعناصر من تنظيم "داعش" على الأراضي الأذربيجانية وعلى حدود إيران، بما يجعل أذربيجان ساحة خلفية للكيان الصهيوني للتآمر على إيران، حيث من باكو، ووفقا لمسؤولين إيرانيين، تمت هجمات "إسرائيلية" استهدفت البرنامج النووي الإيراني، واغتيال العالم النووي البارز محسن فخري زادة.
لذلك لجأت إيران إلى مناورة عسكرية على طول الحدود مع أذربيجان، "فاتحي خيبر"، ما دفع باكو إلى العودة الدبلوماسية، حيث لديها مشاريع اقتصادية مهمة مع إيران مثل السكك الحديدية التي تربط أذربيجان بالخليج عبر مدينة أستارا، وكذلك خط النقل البري بين البلدين. ولا يبدو أن هذه التوترات ستصل إلى أماكن خطرة.
3- محاولة زرع كمائن متفرقة ونشر الفتن في العراق ولبنان من خلال الانتخابات العراقية، ومجزرة الطيونة في بيروت، لتقليص النفوذ السياسي لتيار المقاومة والحشد الشعبي في العراق، وللمقاومة اللبنانية "حزب الله"، بالإضافة إلى نزع سلاح المقاومة أو توريطه في حرب أهلية.
على المقلب الموازي يحقق المحور المناهض للهيمنة الأمريكية وحلف محور المقاومة تقدما متسارعا في كافة الميادين، نذكر منها:
1- بدء العمل التجريبي بخط أنابيب السيل الشمالي الذي يزود أوروبا بالغاز الروسي.
2- إنجاز الجيش واللجان الشعبية اليمنية انتصارات ميدانية بمجموعة من العمليات المتتالية آخرها عمليتا "فجر الانتصار" و"ربيع النصر" اللتان أدتا إلى استكمال تحرير معظم محافظة مأرب وأجزاء من محافظة شبوة مدن الموارد بالغاز والنفط والماء، وبالتالي إضافة بعد اقتصادي للبعد العسكري بالتحرير.
3- استكمال تحرير الجنوب السوري من الجماعات الإرهابية، وعودة سورية إلى دورها الإقليمي ومداها الحيوي ومكانتها الدولية عبر التنسيق الأمني بقرار الإنتربول الدولي رفع الحظر عن دمشق، والبوابة الاقتصادية بالتنسيق مع مصر والأردن ولبنان، وفتح معبر نصيب ـ جابر الحدودي، وإعادة إحياء خط الغاز العربي، ووصول الغاز المصري والكهرباء الأردنية إلى لبنان عبر الأراضي السورية، وكسر بعض من تفاصيل "قانون قيصر"، بعد وصول قوافل النفط الإيرانية إلى ميناء بانياس، ثم بيروت براً، بتحد صريح وواضح للعنجهية والبلطجة الأمريكية و"الإسرائيلية”.
4- بدء الجيش العربي السوري مع حلفائه استكمال تحرير الشمال السوري من الاحتلال التركي ومجاميع العصابات الإرهابية التكفيرية التابعة له، من خلال بدء المعركة من مدينة سرمدة على الحدود السورية ـ التركية، وشمل القصف مقرات هامة للفصيل الإرهابي "هيئة تحرير الشام"، ومنها مقر اقتصادي: "شركة محروقات وتد"، بالإضافة إلى مركز نفوس وقيادة الشرطة التابعة لهم، وبالتالي استهداف كل المؤسسات التي سعت تركيا لتثبيتها في إدلب كبديل عن مؤسسات الدولة السورية، وأهم أهداف هذه العملية العسكرية رفض تتريك الشمال السوري، وإنهاء الوضع الشاذ فيه.
5- عودة طهران في الأسبوع القادم إلى مفاوضات الاتفاق النووي في فيينا بشروطها، وفق سياسة الخطوة بخطوة، والتي تبدأَ بأن يقوم الأمريكيون برفع العقوبات بالكامل وخاصة النفطية والمالية، لتقابلها إيران بالعودة إلى الاتفاق النووي وخفض نسبة تخصيب اليورانيوم من 60% إلى 3,5%، وخفض إنتاج أجهزة الطرد المركزي...
6- وسبق كل ذلك معركة "سيف القدس" التي خاضتها فصائل المقاومة الفلسطينية نصرة للقدس، وكشفت ماهية معادلة "إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت"، نحو تكريس معادلة قواعد اشتباك جديدة: "القدس تعني حرب إقليمية". ومنذ أسابيع قليلة عملية نفق الحرية "سجن جلبوع" التي نفذها الأسرى الأبطال الستة قبل إعادة اعتقالهم، والتي هزمت منظومة الاحتلال الأمنية والعسكرية والاستخبارية، وشكلت نقطة تحول جديدة في مسار الصراع العربي الصهيوني.
وفي الختام نذكر ما نقلته صحيفة "جيروزاليم بوست" عن رئيس المؤتمر اليهودي العالمي، رونالد لودر: "إن خسارة تل أبيب التضامن الصريح عالمياً في المعركة مع غزة ضاعف الخطر الوجودي على إسرائيل"، وأنه على أهمية خسارة الرأي العام، لكن الانقسام الذي يهدد وجود "إسرائيل" ليس الانقسام في الداخل "الإسرائيلي" فقط، بل في العالم كله. كما تحدث عن تراجع الولاء لـ"إسرائيل"، واختراق أعدائها لحلفائها الأكثر إخلاصا لها في الولايات المتحدة، وهذا ما أكده أيضاً الكاتب سيث فرانتسمان بأن حركة المقاومة الفلسطينية وصلت إلى دعم شعبي كبير بعد الحرب الأخيرة على غزة، في الوقت الذي استهدفت الاحتجاجات إدانة "إسرائيل" في العديد من البلدان، ونشرت مقالات تنتقدها في جميع أنحاء العالم. وأضاف: "كما قادت الصين جهودا في الأمم المتحدة لإدانة إسرائيل، فإن أعضاء اليسار المتطرف في الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة اتهموا إسرائيل بممارسة الفصل العنصري، ودعوا لوقف مبيعات الأسلحة". كما أكد تراجع دعم "إسرائيل" حتى بين المؤيدين الرئيسيين لها بالولايات المتحدة كالإنجيليين.
وفي الخلاصة مازال كيان الاحتلال الصهيوني يقف على "إجر ونص"، خوفاً من انتقام المقاومة اللبنانية القادم لشهدائها لا محالة، وقد يقف الآن على رجل واحدة بعد توعد بيان غرفة عمليات حلفاء سورية بـ"الرد القاسي" ردا على الغارات "الإسرائيلية" على تدمر والتي انطلقت عبر سماء الأردن ومنطقة التنف السورية المحتلة من الأمريكيين منذ أيام قليلة.
أكاديمية وكاتبة سورية.
* نقلا عن : لا ميديا