لا أتذكر كيف بدأت العلاقة بيننا لكنني أتذكر أنها بدأت مُبكراً جداً. وكأنه شيءٌ فطري نشأ وترعرع معي وكان يكبر كلما أكبر، كان وجوده أساسي في حياتي كإحساسي بالهواء يسري في رئتيّ وحاجتي لشرب الماء كي أبقى على قيد الحياة.
لا أزال أحاول جاهدةً أن أتذكر فتخذلني الذاكرة، لماذا هي بالذات، ما كان السر، وهل أنا لوحدي من حصل معها ذلك؛ كل ما أتذكره أنها رافقتني طوال حياتي لم تغب عني للحظة، ربما لأني كنت من أبحث عنها طوال هذه المدة.!
ربما وجدتها في بكاء أمي ودموعها الحارّة المرة تلو المرة، وربما شاهدتها في عيون والدي في نشرة التاسعة مساءً، لكنني سمعتها مرةً أخرى أغنيةً ذات صباح من مذياع المدرسة، وفي كلام المارةِ في الشارع أكثر من مرة.
وفي كل مرة علقت الصورة في ذهني وتعلقت في جدران قلبي وكبرت الفكرة. طوال مرحلة طفولتي لم تفارقني ولا لمرة. حتى وجدتني أبحث عنها بشكلٍ حثيث، وإن غفلتُ عنها قليلاً أتت هي إليّ تهز كياني وتقول لي هل نسيتيني هذه المرة!
إنها القدس يا سادة، كنت أرى أطفالاً وشباباً في سن الزهور يحملون الحجارة أمام جنودٍ مدجنين وحواجز ودبابات، كنت أراهم يقتادون صبيةً صغاراً وقد أذاقوهم الويل ألف مرة، ما الذي جعلهم يخرجون ليواجهوا الرصاص الحي بصدورهم فيتساقطون شهداء وأسرى وأسمع أنين الثكالى وهو يتعالى؛ ها هي إحداهن تلحق الجنود لتنتزع طفلها من بين أيديهم فيدفعونها بقسوةٍ و وحشيةٍ وهم يتلذذون بعذابها على وليدها إن لم يقتلوها هي الأخرى.
أدركت حينها حجم المصاب والكارثة، فقد سمعت إمام حارتنا في خطبة الجمعة يدعو للمجاهدين في فلسطين وعند أكناف بيت المقدس، وقالت لي معلمتي إنه مسرى الرسول، وها هي أختي تستمع لأناشيد حماسية عن الانتفاضة، فهناك يهود يدنسون الأقصى وهناك فيروز تغني للقدس مدينة الصلاة والسلام والحمائم.
لقد بدأت رحلتي في البحث عنها ومن يومها لم أستطع أن اتوقف؛ ما الذي يجب علي أن أفعله يا إلهي. ما الذي يجب علي أن أفعله.!
نعم.. ها أنا أنظر لأمي خلسة وهي تدعو للمجاهدين وتبكي في جنح الليل. وأنا لم أترك الدعاء لهم في أي وقت أثناء صلاة الوتر وبعد الصلاة.
حصلت مجزرة جديدة. اليهود. نعم إنهم اليهود. ماذا بيدي يا الله؟ أشعر قلبي يتقطع على شيء اسمه القدس وإخوة لي هناك. هناك مسيرة في المدرسة ستجوب شوارع العاصمة. لكنني مريضة. متعبة جداً.. ورغم ذلك لم أقدر لقد خرجتها رغم كل شيء حتى إن والدتي استغربت جداً من أين أتيت بهذه الطاقة وكيف استطعتِ.. لا أعرف إنها القدس يا أمي..
يا إلهي بازارٌ آخر في المدرسة. مردوده لصالح القدس أيضاً ها أنا أمشي في باحة المدرسة لوحدي هائمةً مع أناشيد الجهاد والانتفاضة. لا يكفي أنني شاركت في البازار بل سأشتري منه بقدر ما أستطيع ليس لأني أحب الطعام. _زميلتي: إذن لماذا؟
_ألم تسمعي أن مردوده للقدس..
-انتظري.. هناك اجتماع كبير لنسوة حارتنا.
-هل ستحضرين؟
_ لا أستطيع ألا أفعل، _لماذا؟، _لأنه الآخر عن القدس..
_أين خاتمك الذهبي الجميل؟ ألم يكن الوحيد!
_بلى.. لكنني حضرت اجتماعاً آخر كانوا يجمعون التبرعات لأجل القدس.. لم يكن معي غيره فقدمته!
وهكذا يمضي الوقت وهي لم تغب عني ولم تفارقني للحظة.
بحثت عنها طويلاً كيف لي أن أجدها وأصل إليها، أدركت مؤخراً أن دعاء أصحاب الذقون وأصواتهم الرنانة كانت كذب بل إنهم كانوا أحباباً لليهود الذين يؤذون معشوقتي القدس، وآيات القرآن التي كانوا يتلونها كانت تلعنهم في كل قيامٍ وسجود.. والأموال التي كنت أحاول جاهدة مع غيري الكثيرين أن تصل لأولئك الذين لم تكن تنقصهم الشجاعة بل السلاح أوصلناها لأيدٍ غير أمينة باعت القضية كما باعت الدين والمبادئ وكل القيم وكانت هي أول من خانت وطعنت وطنها قبل أي وطن.
ومن كنت أستغرب عدم مقدرتهم لمناصرة قضيتي وقضية أمتي رغم ثرائهم وكثرتهم.. كانت اجتماعاتهم مسرحية وكانوا هم أكبر نكبات الأمة المجرمين في حق الدين والقضية.
قضيتُ طفولتي أسيرة القضية ومع كل حدث أفكر.. تُرى هل ماتت القضية!
حتى جاء حزب الله يبعث به الله فيَّ روح الأمل بعد أن كادت تذبل روحي ونفسي الأبية.
وبعدها بقليل صدع صوت من مران اليمن وكان الثمن باهظاً. ولم يكن بيدنا أن نفعل شيئاً إنها القدس التي يسكب على جنبات عشقها أغلى ثمن.
وبعد أن كادت تذهب نفسي حسرات على معشوق لم أعرف سبل الوصول إليه سطعت أنوار فجر محور المقاومة أمام ناظري. وقد كانت موجودةً حقاً من قبل من إيران إلى لبنان. لكن الصورة اتضحت الآن أكثر فقد أشرقت الأرض بنور الله وأنوار الصادقين معه السائرين في درب رضاه. ها هم من البحرين إلى سوريا والعراق وسائر دول المحور تتصدرهم يمن الإيمان قاصمة الظالمين ومنكسة رؤوس المعتدين. كل ما في الأمر أن الرؤية كانت مشوشة بسبب حركات النفاق وأصوات النشاز؛ لكن لا بد للحق أن يظهر لأنه يدمغ الباطل وهو زهوقٌ بطبيعة الحال.
رجالٌ صدقوا.تسبق أفعالهم أقوالهم صادقين في ولاءهم لله ولقضايا شعوبهم وأمتهم جعلوا من معشوقتي ومحور حياتي قضيتهم المركزية، وصدحوا بصوت الحق في وجه المطبعين والخائنين والبائعين للقضية. فصدحت بأعلى صوتي دمي وروحي لكم الفداء وأخيراً على نهجكم وبالتمسك بسبلكم سأصل لمعشوقتي الأزلية. نعم. على بركة الله أنا وكل الأحرار معكم وإلى جانبكم بقولٍ وعملٍ يرضي رب الأرض والسماء. فإما صلاةً عند أبواب القدس أو نلقى الله على أعتاب عشقها شهداء سعداء.
الله أكبر
الموت لأمريكا
الموت لإسرائيل
اللعنة على اليهود
النصر للإسلام