يتابع حزب الله مسار فعاليات الذكرى الأربعين لانطلاقة المقاومة، وذلك من خلال القيام بنشاطات متنوعة، ثقافية، سياسية، إعلامية، وجدانية، اجتماعية وحزبية، بالإضافة للإضاءة شبه اليومية على أغلب مفاصل هذه المسيرة الاستثنائية في تاريخ لبنان، والتي يتولاها (الإضاءة) مسؤولون وقياديون من المقاومة، من الذين عايشوا أغلب مراحل هذه المسيرة، أو من الذين انخرطوا فيها لاحقا، وأجادوا في فهمها وفي خدمتها وفي الوفاء للأهداف السامية التي خُلقت من أجلها.
في الواقع، ومن خلال متابعتي للقسم الأكبر من هذه الفعاليات، دفعتني حشريتان إعلامية وأمنية- استخبارية أولا، وثانيا اهتمامي بكل ما يمكن أن يكون له علاقة من قريب أو بعيد بالمؤسسة العسكرية، كوني ضابطا متقاعدا في الجيش اللبناني، وكنت وما زلت أكن كل الاحترام والوفاء والمحبة والغيرة لمؤسستي العسكرية، وذلك للبحث عن رابط معين بين هذه المسيرة لأربعين عاما وأكثر من المقاومة، وبين الجيش اللبناني، والذي من المفترض أن يكون هو المكلف الأول بمواجهة الاحتلال، ميدانيا وعسكريا.
طبعا، من المعادلة المعروفة: المعادلة الثلاثية (جيش - شعب - مقاومة)، يمكن أن نجد رابطا أساسيا بين المؤسستين (العسكرية والمقاوِمة) من جهة وبين الشعب اللبناني من جهة أخرى، حيث الأخير (الشعب) هو المصدر الأساسي الوحيد للشباب أو العناصر الذين ينخرطون في المؤسستين، وعلى دعم ومؤازرة الشعب لجهود هؤلاء الشباب، تقوم المؤسستان بدورهما وتحققان مهمتهما وأهدافهما.
الرابط الثاني والذي هو بالحقيقة منبثق من الرابط الأول، يمكن أن نستنتجه من العبارة الأخيرة أعلاه: دور ومهمة وأهداف مؤسستي الجيش والمقاومة. وهنا، انطلاقا من دراسة هذه العبارة، يظهر الرابط الأقوى ويفرض نفسه بقوة، بمواجهة كل من يسأل أو يتساءل أو يعتبر، لماذا تلعب المقاومة أحيانا الدور المنوط بالجيش؟ ولماذا تنفذ أحيانا المهمات المفترض أن تكون من مسؤولية الجيش؟ وطبعا، ليست كل هذه التساؤلات عن حسن نية، فبعضها عن سوء نية وليست بهدف احترام دور الجيش، بل بهدف الإيقاع بينه وبين المقاومة، ودائما، يعمل هؤلاء لغايات تخدم العدو، والذي أصابت منه هذه العلاقة المتينة بين الجيش والمقاومة مقتلا.
في الحقيقة، نواة المسيرة التي ارتكزت عليها المقاومة في نشأتها، قامت على أساس تخلّف الجيش عن لعب دور مواجهة ومقاومة الاحتلال. وقد تكون العبارة (تخلّف) قاسية بعض الشيء، ولكنها وبكل موضوعية، عبارة صحيحة، وطبعا، هذا التخلّف حصل رغما عن الجيش بكامل عناصره وقادته، والذي تقوم عقيدته، وهو صادق بالكامل في الالتزام بها، على مواجهة الاحتلال والتعدي، وعلى حماية الحدود وحفظ السيادة، وهذه المفاهيم هي ثابتة ومؤكدة لدى كل عناصر الجيش اللبناني تاريخيا وحاضرا، ولم تكن تعليمات قادته- كل قادته- إلا احتراما والتزاما بهذه المفاهيم.
أسباب هذا التخلّف القصري للجيش عن لعب دوره في مواجهة الاحتلال معروفة وكانت دائما واضحة لدى الجميع، وهي جاءت بسبب تقاعس أو تواطؤ المسؤولين السياسيين الرسميين أو رجال السلطة السياسية اللبنانية، والذين لهم القدرة والصلاحية حسب الدستور والقوانين اللبنانية، على إدارة وتوجيه عمل ومهمات دور الجيش، وعلى تحديد ما يمكن له القيام به.
الأهم في الموضوع، والذي ميّز لاحقا مسيرة الأربعين عاما من المقاومة، لناحية العلاقة الاستثنائية بينها وبين الجيش، يمكن تحديده بالتالي:
- علاقة استثنائية خُلقت بين جيش ممنوع عليه أن يواجه العدو، وهذا المنع جاء بطريقة غير مباشرة عندما حُرم من امتلاكه الأسلحة المناسبة لهذه المواجهة غير المتكافئة، في ظل ما يملك من قدرات متواضعة، مقارنة بقدرات العدو الضخمة، وبين مقاومة قادرة، ساعدتها أولا الحوافز الخاصة من التزام وإيمان وقرار ذاتي، وثانيا ساعدتها الظروف الإقليمية والعلاقة المتميزة مع دول محور المقاومة وعلى رأسها إيران ثم سوريا، بأن تمتلك القدرات المناسبة لمواجهة العدو وإنهاء احتلاله بالقوة، ولاحقا لردعه ومنعه من الاعتداء واختراق السيادة والتطاول على حقوقه وثرواته.
- علاقة استثنائية من المحبة والاحترام المتبادل، بين من هو المكلف أساسا بالقيام بقتال العدو وبمواجهته، وتعذر ذلك عليه، وبين المقاومة التي من المفترض أن تأتي أساسا في المرتبة الثانية بعد الجيش في هذه المواجهة، وتصدرت هذا الدور وهذه المواجهة.
- علاقة استثنائية بين جيش مكلف بحفظ الأمن على كافة الأراضي اللبنانية، مع ما يتطلبه الأمر من إجراءات أمنية وإدارية وقانونية كاملة، ضمنا في الأماكن التي تعمل فيها المقاومة وتناور وتخطط وتتجهز وتتدرب، لتنفيذ مهمة المقاومة ومواجهة العدو، بحيث لم يحصل خلال الأربعين عاما أي صدام أو أشكال أو نزاع على صلاحية أو نزاع على تمركز أو نزاع على انتشار أو تواجد، أَثَّر على مهمة ودور كل من الطرفين، فبقي الجيش متحكما بتنفيذ مهمته بحفظ الأمن على كافة الأراضي اللبنانية، ومسهلا بامتياز لعمل المقاومة، وبقيت الأخيرة مسيطرة على كافة النشاطات التي تتطلبها مهمتها في مواجهة العدو، وبقي كل طرف ملتزما ومتفهما لدور ولمهمة الطرف الآخر.
- علاقة فوق عادية بين جيش حافظ على قناعته وتفهُّمه لاستثنائية الموقف والوضع الداخلي أو الإقليمي أو الدولي، والذي نتج عنه وجود طرف آخر داخلي، يلعب دوره وينفذ ما هو مفترض أن يكون مهمته، وبين مقاومة وصلت إلى ما وصلت إليه من مستوى متميز في القدرة والقوة والتأثير، وبقيت ملتزمة بحدود علاقة الحكمة والاحترام وحفظ الموقع للجيش.
وأخيرا، من الواجب القول، وحيث هناك الكثير من الأسباب الداخلية والخارجية الأخرى، والتي ساهمت بنجاح حزب الله في مسيرته المقاوِمة، أنه يبقى لهذه العلاقة الاستثنائية التي جمعت الجيش اللبناني والمقاومة خلال الأربعين عاما الماضية، دور أساسي في تثبيت وتحصين هذا النجاح، والذي تُرجم تحريرًا من الاحتلال، وترجم موقفا صلبا رادعا بمواجهة "إسرائيل"، والذي ترجم أيضا موقعا متقدما للبنان في المنطقة، كبلد قادر أن يفاوض على حقوقه وثرواته وسيادته من الند للند.
* نقلا عن :موقع العهد الإخباري