بدأت تتظهر مؤخراً معطيات تؤشر إلى أن الأميركيين ملّوا من الحرب في أوكرانيا، وأصبحوا يتمنون لو تنتهي في أسرع وقت، وبأي نتيجة كانت.
..
كل ما يقوم به الأميركيون، وبشكل ظاهر، في السياسة والإعلام، وعملياً في دعم أوكرانيا بالأسلحة والتجهيزات العسكرية، يوحي بأنهم سائرون في استراتيجية تعقيد الموقف على روسيا، واستنزافها في الحرب التي تخوضها حالياً مع أوكرانيا بطريقة مباشرة، ومع "الناتو" بطريقة غير مباشرة، وذلك من خلال إطالة الحرب قدر الإمكان ولكن...
في الواقع، بدأت تتظهر مؤخراً معطيات تؤشر إلى العكس من ذلك، بمعنى أن الأميركيين، وكأنهم ملّوا من هذه الحرب، وأصبحوا يتمنون لو تنتهي في أسرع وقت، وبأي نتيجة كانت، حتى ولو أفضت إلى انتصار الروس....
طبعاً، من غير المنطقي أو الطبيعي التفكير بهذه الطريقة، أو التوصل إلى استنتاج بأن الأميركيين بدّلوا من قناعاتهم ومن آمالهم في ما خص الحرب في أوكرانيا، ولكن عملياً، ما هي المعطيات التي يمكن البناء عليها للتوصل إلى هذا الاستنتاج الخارج عن المألوف، بأن الأميركيين أصبحوا يميلون إلى انتهاء الحرب في أوكرانيا سريعاً، وبمعزل عن نتيجتها ومهما كانت؟
يمكن التطرق إلى 3 اتجاهات من هذه المعطيات: اتجاه سياسي تتكفل فرنسا في إخراجه وبلورته، وطبعاً، هي ليست قادرة على اتخاذ القرار بشأنه بمعزل عن الرضى الأميركي، ولو لم يظهر هذا الرضى، وحتى لو ظهر عكسه تماماً.
الاتجاه الثاني له أبعاد اقتصادية ويتعلق بأزمة الطاقة الكارثية المرتقبة في أوروبا بشكل خاص، أما الاتجاه الثالث فيحمل أبعاداً عسكرية، تتعلق بمناورة تسليم الأسلحة للوحدات الأوكرانية، وتقوده واشنطن، بمشاركة بعض دول "الناتو" الأوروبية ومنها ألمانيا.
الاتجاه السياسي الذي تتكفل به فرنسا، يمكن مقاربته على الشكل التالي:
حتى الآن، توصل الرئيس ماكرون إلى الاتفاق مع الرئيسين الروسي بوتين والأوكراني زيلينسكي على مقاربة مقبولة لتأمين محطة زاباروجيا النووية، واتخاذ الإجراءات المناسبة لإبعاد تفلت خطر الإشعاعات النووية منها، إذ إنها تتعرض لاستهدافات عسكرية أوكرانية من جهة، يقول الأوكران إنها تحصل بسبب التمركز العسكري الروسي غير المسؤول داخل منشآتها وفي محيطها.
وبمعزل عن مشكلة تأمين محطة زاباروجيا النووية، فإن التواصل لم ينقطع أبداً بين الرئيسين الروسي والفرنسي وبين مساعديهما وخاصة وزيري دفاع البلدين، طيلة فترة الحرب في أوكرانيا.
وكان الروس متفهّمين ومسهّلين لإنجاح زيارة الرئيس ماكرون إلى الجزائر، بالرغم من أن هدفها الرئيسي، تأمين نسبة يسيرة من الغاز الجزائري كبديل للغاز الروسي لأوروبا، وليس فقط لفرنسا.
لناحية الاتجاه الاقتصادي، والمتداخل بشكل كامل في الاتجاه السياسي، وتحديداً مشكلة الغاز المرتقبة في الشتاء القادم في أوروبا، فقد يكون كافياً لأخذ الأمور على محمل الجد والحذر، ملخص ما قاله مجلس خبراء الطاقة في الاتحاد الأوروبيّ، وفقاً لتقرير صادر عن مؤسسة "راند" الأميركيّة بأن "القرارات الخاطئة بالاعتماد الأحادي على الموارد الروسيّة للطاقة لا يمكن معالجتها بالعودة إلى موارد معادية للبيئة، وأن المراجعة السياسية واجبة للوصول إلى تسوية سياسية منعاً لكارثة محققة".
أما لناحية الاتجاه العسكري، والذي قد يكون الأكثر تأثيراً بين الاتجاهات المذكورة، فيمكن مقاربته بالتالي:
مؤخراً، قال وكيل وزارة الدفاع للشؤون السياسية الأميركية، كولين كال، إن "تسليم الأسلحة بموجب حزمة المساعدات العسكرية الجديدة البالغة 2.98 مليار دولار أميركي لأوكرانيا، سيبدأ في الأشهر العديدة المقبلة، وسيستمر لسنوات"، وأوضح كال، خلال إفادة صحافية، أنّ "تسليم حزمة صواريخ (يو أس أيه أي) ستظل قائمة، في حال استمرار الحرب، أو الاتفاق على وقف إطلاق النار بين روسيا وأوكرانيا"، مؤكداً "في جميع السيناريوهات، هذه الحزمة مناسبة".
في متابعة لهذا التصريح أعلاه وتحليله، يمكن استنتاج ما يلي:
أولاً: تحديد فترة التسليم بين عدة أشهر وعدة سنوات، لا يوحي بشكل واضح بأن هذه الحزمة مخصصة لدعم الوحدات الأوكرانية لمواجهة الوحدات الروسية في المعارك الدائرة حالياً في الدونباس، لأن الأخيرة (المعارك الدائرة حالياً في الدونباس) لا تحتمل تمديد الدعم واستمراره لهذه الفترة الطويلة، بل تحتاج دعماً مباشراً وفورياً، وإلّا سوف يحسمها الروس سريعاً.
ثانياً: هذه الصواريخ المذكورة، (يو أس أيه أي)، هي صواريخ جو-جو، ويوجد نموذجان منها، "يو أس أيه أم 9 سايدويندر" ونموذج آخر" يو أس أيه أم 7 سبارو"، وتُطلق على أهداف جوية معادية، من قاذفات أميركية "أف4 وأف 15 وأف16" حصراً، وهذه القاذفات غير موجودة لدى القوات الجوية الأوكرانية، ولا يوجد قرار أو تصريح أميركي بتسليم أي قاذفة منها إلى أوكرانيا حتى الآن.
من هنا، يمكن استنتاج أن تسليم هذه الحزمة من الصواريخ لأوكرانيا غير وارد في المدى المنظور، والإعلان الأميركي عنه، لا يتجاوز البروباغندا الإعلامية والإعلانية، أما إذا كان أمر التسليم جدياً، فسيحصل حكماً بعد أن يكون ممكناً ومتيسراً، أي بعد انتهاء الحرب، وبعد أن تسمح روسيا بذلك، إذ إن الأخيرة اليوم، تسيطر بشكل كامل على الأجواء الأوكرانية، ولا يوجد قرار جدي غربي باستهداف هذه السيطرة، أو باستهداف التفوق الجوي الروسي في الأجواء الأوكرانية، وحصول قوات كييف الجوية على بعض النماذج من القاذفات الأميركية المذكورة، (أف 4 أو أف 15 أو أف 16) في المدى المنظور القريب، سيكون أمراً شبه مستحيل.
النقطة الثانية، التي يمكن أن نستنتج من خلالها سأم الأميركيين من هذه الحرب وتمني انتهائها سريعاً، جاءت في تصريح المستشار الألماني شولتس، بأن برلين لن تقدم لكييف أسلحة قادرة على استهداف الأراضي الروسية، مستشهداً بكلامه بتصريح غير بعيد للرئيس الأميركي جو بايدن، بشأن الموضوع نفسه، عن قرار للأخير يقضي بعدم تسليم أوكرانيا أسلحة قادرة على استهداف الأراضي الروسية.
طبعاً، هذان التصريحان للرئيس الأميركي وللمستشار الألماني، ليسا جديدين، ويدخلان في الاستراتيجية نفسها التي انتهجتها دول "الناتو" خلال الحرب، والقاضية بعدم إفساح المجال للوحدات الأوكرانية باستهداف الأراضي الروسية.
ولكن، عملياً، أصبح الجميع مقتنعاً، بأن هناك استحالة للوحدات الأوكرانية، وعبر استعمال أسلحة متوسطة، تمتلكها حالياً، أو تحصل عليها من دول "الناتو"، بتغيير المعادلة الميدانية في وجه الروس، في الدونباس أو في جنوب أوكرانيا، إذا لم تحصل على أسلحة بمستوى أعلى من التي تحصل عليها حالياً، والتي هي عملياً، (الأسلحة ذات المستوى الأعلى) الأسلحة نفسها التي ستكون قادرة على استهداف الأراضي الروسية، الأمر الممنوع غربياً حتى الآن.
انطلاقاً من هذه النقاط -المعطيات، المذكورة أعلاه:
الأولى المتعلقة بالرضى الأميركي على سياسة التواصل الفرنسي مع الروس...
والثانية المتعلقة بتقارير علمية، أميركية وأوروبية، تنصح بإيجاد تسوية سياسية مع الروس لتجنب كارثة فقدان الطاقة أو نقصها في أوروبا.
والثالثة ذات الطابع العسكري، والمتعلقة بالصواريخ جو-جو الأميركية "أيه آي أم 7 و9"، والتي لن يكون هناك مجال لحصول كييف عليها من واشنطن، إذا بقيت الحرب مستمرة وعلى المستوى الحالي نفسه من التفوق الروسي وخاصة الجوي، أو تلك المتعلقة بالأسلحة ذات المستوى فوق العادي، والتي اعترف الأميركيون والألمان بأنهم لن يسلموها إلى كييف.
يمكن استنتاج أن الأميركيين، وطبعاً الأوروبيين بدأوا يفكرون جدياً في إيجاد تسوية مع الروس، بهدف إنهاء الحرب في أوكرانيا، وتجنيب الغرب ويلات الانهيارات الاقتصادية المرتقبة، والتي لن يقووا على تحملها مع استمرار هذه الحرب.
* نقلا عن :الميادين نت