ليس عيباً أن تكون دون حضارة؛ لكنَّ العيبَ أن تدَّعي ما ليس لك. والعيبُ أيضاً أن تشتري بضعَ جِرارِ ماءٍ وأوانٍ قديمة وتدفنُها في الصحراء ثم تستدعي الإعلاميين وتستأجرُ الكاميرات لتصوِّرك وأنت تحفرُ وتخرجُ هذه الأواني والجرار. لأنَّ الأواني لم يكن يستخدمها ساكنو الصحراء، ومجرد وجودِ جرارِ ماء يجعلنا نتساءل: ما حاجةُ سكانِ الصحراء إلى جـِرارٍ في تلك الفلواتِ التي ليس فيها بِرَكٌ ولا جداولُ ولا أنهار؟!
تلك الحضارةُ التي تُضني الإماراتُ نفسَها بحثاً عنها تحتَ الرمالِ ليست سوى سرابٍ يحسبه الظمآنُ ماءً؛ ولكن... يظلُّ السرابُ سراباً!
تُرّهات «القاسمي»
في إحدى نشراتِ أخبارهم، أكد الشيخ سلطان القاسمي أن الأنباطَ قدِموا إلى دويلةِ الإماراتِ قبلَ أربعة آلافِ سنة، وقال إنها أولُ منطقةٍ بدأت بالتطور البشري؛ حتى قبل تطور الصين بآلاف السنين!
التطور البشري؟! كيف يجرؤون على التحدُّث بهذه الترَّهات في نشراتِ الأخبارِ أمامَ العالم؟!
ندري جيداً متى تمت تسميةُ الإماراتِ واعتمادها كدولة؛ لكننا لا ندري ماذا كان اسمُها حينها، إن كانت موجودةً بالفعل. ولم يكن اسمُها دولة الإماراتِ إلَّا عام 1970، ولا يعني تخطيطُه بالقلمِ الأخضرِ على الخريطة أنها كانت هناك فعلاً.
الكلامُ الذي قاله الشيخ القاسمي، دون أي سندٍ يؤكده، هل هو من يقرره، أم علماءُ الانثروبولوجيا وخبراءُ التنقيب الذين لن يجدوا شيئاً سوى الغبار؟!
ربما لا يعرفُ القاسمي أنه عام 1970 في اليمن تم افتتاحُ مصنع «بسكويت أبو ولد»، وفي عام 1971 تم إنشاءُ دولة الإمارات!
أما في مجال البحثِ عن مآثرَ دينيةٍ فقد جاؤوا برجلٍ مُلتحٍ ليقول إن لهجةَ الإمارات موجودةٌ في القرآن الكريم! ومع ذلك لم يقل شيئاً يستطيعُ به إقناعَ طفلٍ أو يصدقه رجلٌ رُفع عنه القلم.
قبل أشهر، قام «تلفزيون دبي» بتكريم امرأة قيل إنها حفيدة عنترة بن شداد، وزعموا أنه تم إثباتُ نسبها بواسطة الـ»دي إن إيه»، دون أن يفكروا لوهلةٍ أن المتلقي سيتساءل: من أين جاؤوا بالحمضِ النووي لعنترة بن شداد؟!
تأريخ قابل للمزايدة
يدَّعي «الإماراتيون» أيضاً أن سكانَ جزيرة سقطرى اليمنية من قبائلَ تعود أصولُها إليهم. لا تعليقَ مناسباً على هذا السُّخف؛ فأصغرُ شجرةٍ في جزيرةِ سقطرى يبلغُ عمرُها أضعافَ عمر دولتهم وعمر أجدادهم، الذين لم يستقروا بأرض، شأنهم شأنُ البدو الرُّحَّلِ الذين يقضون أعمارَهم في الصحراءِ بحثاً عن الماء والكلأ، لأنهم يجهلونَ أن خارجَ هذه الصحراء جبالاً ومدناً وحضاراتٍ وأناساً غيرهم. فحالهم كحالِ السمكة التي لا تُصدّقُ أن هناك عالماً خارجَ الماء؛ لأنها لم ترَ هذا العالم، ولن يُسعِفَها عمرُها القصيرُ لرؤيته.
يا ترى، هل يُجهدون أنفسهم في سرقةِ التراثِ السقطري لأجل إثبات هذا؟!
حتى قهوة الكباتشينو ليست إيطالية، وإنما جاءت من بادية بينُوْنَة في إمارة أبوظبي، كما قالت إحدى حاملات الدكتوراه!
لا يتحدثُ عن هذه الحضارةِ المزعومةِ سوى بعضِ مشايخِ الإمارات فقط، دونَ الاستنادِ إلى شيءٍ يدعمُ هذه الهراء. فالناسُ هناك على دين مشايخهم، والإعلامُ يلقفُ ما يأفكون. وكلما زاد الإعلامُ في الجرافيك والمونتاجِ والمؤثراتِ الصوتيةِ لتزيين أحاديثِهم، فاحت رائحةُ الفضيحة أكثر.
يقول محمد بن زايد إنهم حقيقة وليسوا حدثاً، دون أن يعرف أن إثباتَ الإثباتِ نفي. ثم قال إنهم من 700 سنة، ثم قام بتخفيضها إلى 250 عاماً، وبعد ذلك صدَّق نفسه واستدرك قائلاً إن لديهم تاريخاً منذ آلاف السنين!
الحضارةَ لا تُكتشفُ بالصدفة
وفي سابقةٍ تجلب الضحكَ وتشعرك بالشفقةِ تجاه هؤلاءِ الباحثين عن الوهم، ردَّدَ تلفزيونهم «كلام المذيع عن اللمعة في الصحراء واكتشاف محمد بن راشد للآثار».
اللمعةُ التي رآها محمد بن راشد قد تكونُ قطعةَ زجاجٍ، أو علبةً معدنية، وبالتأكيد لم تُطلّ تلك الآثارُ برأسِها من تحت الرمالِ لتنادي محمد بن راشد وتناشده التنقيبَ عنها. والأنكأ من ذلك أنه لولا حدسُه المعهود لما اكتشفت الإماراتُ هذه الحضارة! يا للفراغِ الذي يجعلهم ينسبون كلَّ زيفٍ لمشايخهم وأمرائهم!
حتى النوقُ التي تفوزُ في سباقاتِ الهجِن لا بد أن تكون لواحدٍ من مشايخهم أو لأميرٍ من أمرائهم!
هؤلاء المشايخ الذين يفرحون بأيِّ كذبةٍ ويصدقونها، لا يعرفون أن الحضارةَ لا تُكتشفُ بالصدفة؛ إنها جيناتٌ وشواهدُ ومآثرُ وفكرٌ وفنٌّ...
ولا يمكن لحضارةٍ أن تبقى خاملةً ومدفونةً تحتَ الترابِ حتى يأتي أميرٌ أو شيخٌ ليكتشفها أثناءَ رحلاتِ الصيدِ بالصقور. كما أن الحضارةَ ليست كل ما هو تحتَ الترابِ فقط.
مركز تسوق عمره 3000 عام!
ضاحي خلفان، نائبُ رئيسِ شرطة دبي، ذلك الرجلُ المسخرة الذي لا يكفُّ عن الإساءةِ لليمنِ وحضارتِها وإنسانِها، نشرَ صورةً مسروقةً لعملياتِ تنقيبٍ عن آثارِ موقعِ الملكِ ريتشارد الثالث في بريطانيا، وعلَّق عليها قائلاً: «اكتشافُ مركزِ تسوُّق في دبي عمره 3000 عام»!
لم يذكر خلفان أيَّ نوعٍ من المعلباتِ والعصائرِ والوجباتِ السريعةِ كان يشتريها أجدادُه من هذا المولِ التجاري الذي كان في الإماراتِ قبل ظهورِ السيد المسيح بألف عام! أي عقلٍ سليمٍ يصدق هذا؟!
ربما كان هذا المول يبيعُ عطرَ «ماجان»، هذا العطرُ تمت تسميته بهذا الاسم لأن «ماجان» -كما يزعمون- حضارةٌ موجودة في أبوظبي قبل ثلاثة آلاف سنة، مع أنها حضارة عُمانية، وقد قام الإماراتيون بنسبتها لأنفسهم، كما قاموا بسرقةِ حروف المسند التي تملأ جبالَ ووهادَ اليمن.
حاولنا الاستعانةَ بالفوتوشوب لوضعِ تصورٍ أوليٍّ لشكلِ هذا المولِ وكيفيته، ومحاولةِ رسمِ البضائعِ والسجائرِ والمرطباتِ التي كانت تباعُ به، وهل كان الدفعُ نقداً أم عن طريقِ البطاقةِ الائتمانية؟! حاولنا ولكننا لم نفلح؛ لأنَّ ما قاله ضاحي خلفان كان فوقَ مستوى الفوتوشوب والخدعِ السينمائية.
مثار سخرية
دائماً ما يكونُ ضاحي خلفان مدعاةً للسخرية والتندُّر في مواقعِ التواصل الاجتماعي؛ فقد كتب تغريدةً يخاطبُ فيها سكان صنعاء، قائلاً: «صدعتونا: عرب، عرب... طلعتوا 60% ترك وفرس وأحباش وأفارقة! أحسن اسكتوا، ولا تذكروا العرب».
يدري هذا الخلفان جيداً ألا وجودَ للفرسِ في اليمن بقدرِ تواجُدِهم بمئاتِ الآلافِ في الإمارات. ويدري أيضاً أن سكَّانَ الإمارات لا يتجاوزون مليون نسمة مقابل ثمانية ملايين أجنبي، وهذا المليون نسمة هو حصيلةُ نشأةِ دويلةِ الإماراتِ منذ عام 1971 ميلادية.
استمرأ الشتائمَ التي كان يُعلِّق بها متابعوه على تغريداته، فكتبَ تغريدةً أخرى يقول فيها: «صنعاء مثل محل بضاعة قديمة، أكل الدهر عليها وشرب وصارت كوماً من تحف الماضي، تفرج ساعتين عليها وخلاص»، وقال في تغريدةٍ أخرى إن «صنعاءَ لا تصلحُ كمدينةٍ للسكن»!
كان أفضل تعليقٍ كتبه الصحفي نبيل سبيع: «نحن فقراء؛ لكننا لسنا حقراء».
وكأنَّ دبي مدينةٌ صالحةٌ للسَّكَن! هل يدري ضاحي خلفان أنَّ دبي بكلِّ زجاجها لا تساوي زُقاقاً من أزقةِ صنعاءَ القديمة؟! صنعاء أم الدنيا، حقيقةً لا مجازاً، صنعاء المدينةُ الأولى التي بُنيت على الأرضِ بعد طوفانِ نوح، وسمِّيت «مدينة سام» نسبةً إلى سام بن نوح، وسميت «صنعاء» قبل أربعةِ آلافِ سنةٍ لكثرةِ الصناعاتِ التي اشتهرت بها فعلاً، وليس لوجودِ مولاتٍ وهميةٍ تحت رمالها!
حين تريدُ قياسَ مستوى ثقافةِ أيِّ حكومةٍ فما عليك سوى أن تستمعَ لمسؤوليها والناطقين الرسميين باسمها. وحين تستمعُ للشيخ خليفة أو لمحمد بن زايد أو ضاحي خلفان وغيرهم الكثير، فلا بد أنك ستستنتج أنهم تعلَّموا اللغةَ العربيةَ قبلَ بضعةِ أشهر، وأنهم يجهلون حتى أسماءَ أجدادهم، ومن أين جاؤوا، فما بالك بادعائهم حضارةٍ مزيفة؟! وهم بهذا الأمرِ يشبهون رجلاً عارياً يحاولُ سرقةَ لحاف غيره ليغطي به سوأته!
* نقلا عن : لا ميديا