أعلن كل من إيران والسعودية اتفاقية مصالحة، واستعادة العلاقات السياسية الكاملة، وتفعيل الاتفاقيات الثنائية المجمدة، في مدة أقصاها شهرين، وذلك برعاية صينية، استكمالاً لجهود شارك فيها كل من العراق وسلطنة عُمان خلال عام مضى، تزامن مع تخفيض الصراع في اليمن.
الاتفاقية جزء من مبادرة السلام العالمية الصينية، وجزء من الحراك الصيني الروسي للتمهيد للتعددية القطبية، ونزع فتيل التوترات التي زرعتها الولايات المتحدة، والتي مكنت واشنطن من السيطرة على منطقة غرب آسيا، وجني الأرباح لصالح المجمع الصناعي العسكري الأمريكي الغربي عموماً.
للصين مصلحتها الخاصة من الاتفاقية؛ إذ تعتمد على إيران والسعودية في تلبية حاجتها من الطاقة، وعقدت الكثير من الاتفاقيات معهما، وتسعى لتشغيل شركاتها في بناء البنى التحتية الثقيلة في البلدين. وللصين مصلحة من ظروف السلام، لتسهيل نشاطها التجاري الاستثماري المتعلق بمبادرة «الحزام والطريق» العالمية، التي تمر خطوطها من إيران والسعودية في آن؛ بخلاف المصلحة الأمريكية من النزاع.
ترتبط الاتفاقية بالاحتياجات والتوجهات الاستراتيجية لكل من إيران والسعودية؛ إذ تسعى كل منهما لتشكيل قطب في المنقطة، مع هبوب رياح التعددية القطبية عالمياً، وتسعى كل منها للانضمام إلى الأحلاف الدولية الصاعدة، العسكرية والاقتصادية: «شنغهاي» و»البريكس». ومن المتطلبات الواقعية للانضمام إلى هذه التكتلات والأحلاف تسوية الخلافات بين الدول الأعضاء، والتفرغ للتنمية بدلاً من سباق التسلح.
رحبت معظم الدول العربية والإسلامية بالاتفاقية. لكن أمريكا فقرأته كنفوذ صيني في «الشرق الأوسط». أما الكيان الصهيوني فقد أبدى تخوفه وعدم ارتياحه من الاتفاقية، فقد كانت رغبة الكيان الصهيوني أن يكون التطبيع مع السعودية جزءاً من حلف عسكري معادٍ صراحة لإيران (علاقة بين دولتين على حساب دولة ثالثة). الاتفاقية لن تعيق مساعي التطبيع؛ لكنها سوف تغير طبيعتها، من تطبيع على أسس عسكرية ضد إيران، إلى تطبيع على أسس سياسية اقتصادية أمنية. وعملياً المصالح الاقتصادية الأمنية بين كل من المملكة وكيان الاحتلال موجودة وتتطور بشكل سريع بدون تطبيع رسمي.
لن تؤثر الاتفاقية في اليمن بصورة مباشرة؛ إذ لم تكن جزءاً من قضايا المحادثات الإيرانية السعودية؛ لكن التأثيرات الإيجابية ستنعكس على اليمن بصورة غير مباشرة، وستشمل -إلى جانب اليمن- العراق ولبنان وسورية. فتهدئة التوترات العسكرية بين البلدين، ستخلق ظروفاً أفضل للاستقرار في اليمن. وبشكل جزئي تمثل الاتفاقية تجاوزاً لذريعة السعودية في عدوانها على اليمن، ما يعطي محادثات مسقط دَفعة إلى الأمام، ما لم تعترضها الولايات المتحدة وبريطانيا.
أما بالنسبة لسياسة الهيمنة السعودية تجاه اليمن فلن تتغير؛ إذ إنها موجودة منذ ما قبل الثورة الإسلامية الإيرانية، وستتعزز مع سعي المملكة لتكون قطباً في المنطقة. وكذلك لن ينتهي التنافس السعودي الإيراني في المنطقة واليمن؛ ولكن سيأخذ طابعا سياسيا لا عسكريا؛ لأن منطقة الخليج والبحر الأحمر جزء من جغرافيا دائرة «المصالح الحيوية» لكل من السعودية وإيران على السواء.
الصلح الإيراني السعودي وعلاقته بالتعددية القطبية
الصلح جزء من المبادرة الصينية للأمن، التي أطلقتها الصين في العام الماضي، وأعادت التأكيد عليها في زيارة الرئيس الصيني إلى الرياض في كانون الأول/ ديسمبر 2022. والمبادرة في معناها السياسي الدولي جزء من الحراك (الروسي - الصيني) في سبيل التعددية القطبية، فهي تهدف إلى تهدئة التوترات التي أوقدتها الولايات المتحدة والغرب عموماً، وخصوصاً في بلدان العالم العربي الإسلامي وأفريقيا.
وجاء إعلان الاتفاقية في يوم إعادة انتخاب الرئيس الصيني لفترة رئاسية جديدة، باعتبار ذلك نجاحاً سياسياً له. وتُعد الاتفاقية اختراقاً صينياً سياسياً لمنطقة النفوذ الأمريكي التاريخية.
الصلح ينبع من التطلعات الاستراتيجية للدولتين إلى أن تكون لهما امتيازات في مستقبل التعددية القطبية عالمياً. وفي هذا المسار تسعى كل من السعودية وإيران إلى الانضمام للحلف العسكري الشرقي «شنغهاي» (تم قبول إيران في حلف شنغهاي، فيما للسعودية صفة «شريك في الحوار مع شنغهاي»، وهي مرتبة أقل من مرتبة عضو مراقب التي كانت لإيران قبل قبولها رسمياً هذا العام).
وكذلك تسعى الدولتان إلى الانضمام للحلف الاقتصادي «بريكس». وقد درست «بريكس» في مؤتمرها، في شباط/ فبراير الماضي، طلبات السعودية وإيران الانضمام؛ إلا أن من شروط قبولها الواقعية تسوية الخلافات؛ إذ إن من مبادئ هذه الأحلاف أن تكون العلاقات الاقتصادية السياسية العسكرية بين دول الحلف لها الأولوية على ما دونها.
تأثيرات الاتفاقية في مسار التطبيع
الاتفاقية لا تعني أن الرياض ستبتعد عن «تل أبيب»، والتطبيع جزء من الاستراتيجية السعودية ورؤيتها 2030، والشركات الاقتصادية الصهيونية والعلاقات قد بدأت فعلاً، ومدينة «نيوم» جزء من الاستثمار الصهيوني في المملكة.
الاتفاقية ستجعل التطبيع أقل كلفة؛ إذ ستكون بمنأى عن رد فعل إيراني؛ لكن المتغير الجوهري هو أن التطبيع السعودي مع «إسرائيل» لن يكون ذا طابع عسكري معادٍ لإيران كما تريد «إسرائيل»، بل سيأخذ طابعاً سياسياً اقتصادياً أمنياً.
جهود التطبيع مستمرة. والسعودية تنتظر من أمريكا ضمانات أمنية، ودعما لبرنامجها النووي المدني، كجزء من الامتيازات مقابل التطبيع؛ إذ إن كل دولة طبعت مع «إسرائيل» حصلت على امتيازات أمريكية مقابل ذلك.
تأثيرات الاتفاقية في اليمن
ليس لليمن علاقة مباشرة بالاتفاقية، ولم تكن جزءاً أساسياً من أجندة المحادثات؛ إلا أنها قد تُسهم إيجاباً في اليمن إلى جانب سورية ولبنان، بفعل تهدئة التوترات العسكرية والأمنية بين البلدين، وبالتالي الاستجابة للمخاوف الأمنية السعودية من جهة إيران؛ إذ يُتهم اليمن بأنه تابع لإيران، فعلى الصعيد العسكري الأمني قد تنعكس الاتفاقية إيجاباً على اليمن، وتدفع بتقدم العملية السياسية التي ترعاها مسقط (ما لم تعقها الولايات المتحدة وبريطانيا).
من الناحية الجيوبوليتيكية (الجغرافيا السياسية) فالاتفاقية لا تغير الاستراتيجية السعودية تجاه اليمن، فالسعودية تتصرف في اليمن على أساس أنه جزء من «دائرة أمنها الحيوي»، وهيمنتها على اليمن سارية منذ زمن الشاه في إيران وقبل الثورة الإسلامية 1979، بل إنه كلما تعزز وضع السعودية الدولي ودخلت في «شنغهاي» و»البريكس» فإن هذا سوف يدفعها إلى فرض المزيد من الهيمنة على اليمن.
فالسعودية، وأي دولة أخرى، لا يُمكن أن تكون قطباً في المنطقة وذات نفوذ عالمي إن لم تكن قبل ذلك ذات نفوذ في دول الإقليم المحيطة بها بصورة مباشرة.
والأمر ذاته ينطبق على إيران، التي لا يُمكن أن تكون قطباً في المنطقة وذات نفوذ عالمي دون أن تكون ذات نفوذ في محيطها. واليمن بموقعه الاستراتيجي وثرواته الكامنة سيظل محط الاهتمام السعودي الإيراني، وجزءا من جغرافيا التنافس السعودي الإيراني، الذي سيأخذ في المستقبل طابعاً سياسياً مدنياً، بخلاف الطابع العسكري الأمني الراهن. وفي ظل تمتع اليمن بالسيادة الوطنية الكاملة، وتحقيق الاستقرار السياسي الاجتماعي الداخلي، سيتمكن من الاستفادة من التنافس السعودي الإيراني، في بناء علاقة تبادل منافع معهما.
* نقلا عن : لا ميديا