المزاد العلني والبازارات الكبيرة وكرنفالات البيع والشراء للبحر الأحمر لم تتوقف وذات وتيرة متصاعدة، ذلك البحر الذي لم يكن مجرد همزة وصل في كتاب الجغرافيا، بل همزة وصل تاريخية مصبوغة بالدم. لقد مر الغرباء على سواحله مراراً؛ ولكنهم أبداً كانوا عابرين. واليوم هناك مناقصات ومزادات علنية وإغراءات عصرية لبيع البحر الأحمر.
ففي حمى المفاوضات والمناقصات ورائحة الدم المتعفنة يلجأ بعض الأنظمة في هذا العصر، عصر الردة وزمن التحولات الكبيرة والكرنفالات الكئيبة والمفاجآت المدهشة، إلى التنظير الاقتصادي والأيديولوجي والاجتماعي لتبرير تخليها عن البحر، الذى اصطبغ بدم العرب الفاتحين المستبسلين، والأحمر الآن بفضل الدم النازف من جراحنا المفتوحة على الجبهات الأربع.
أنظمة تبحث عن هوياتها في عالم لا يعرف الرحمة، عالم تديره أمريكا وبريطانيا، وكان على هذه الأنظمة أن تبيع وطنيتها ونسيج وجودها على إيقاع المصالح الاستعمارية والإمبراطوريات المتلاحقة، فصارت تلك الأنظمة أشلاء ممزقة مبعثرة هنا وهناك وضائعة على خريطة الإمبراطوريات ووراء قضبانها وحدود جغرافيتها.
تلك الأنظمة مازالت تفصل سياساتها على مقاس الإمبراطوريات، أنظمة ليست بريئة من دم البحر الأحمر، لذلك أصبحت أشهر المتسولين على قارعة التاريخ، وأسيرة نهب منظم لم تسلم منه حتى اليوم، أنظمة فقيرة متهالكة وهي تملك أغنى بحار العالم بموارده الطبيعية والسمكية والثروات المعدنية والبترولية الموجودة في قاعه.
قيل عنه إنه بحر العرب وبحر المسلمين؛ لكنه لم يصبح كذلك حتى الآن، رغم أن كل الأقطار المطلة عليه أعضاء في الجامعة العربية، باستثناء إريتريا؛ لكن البحر الأحمر سقط تماماً من حسابات الأمن القومي العربي، هذا لو افترضنا جدلاً أن الأمن القومي لايزال في حساب أحد من الحكام الإقليميين.
إن أهمية البحر الأحمر لم تصنعها الجغرافيا فقط، بل صنعها التاريخ أيضاً، فكان للبحر الأحمر دائماً دوره ومكانته الاستراتيجية في موجات التوحيد والصهر الاجتماعي والسياسي والثقافي، حدث ذلك مع هجرات العرب قبل الإسلام، ومع الفتوحات الإسلامية، وفى حملات محمد علي، وفي زمن عبدالناصر، ثم تراجع دور البحر الأحمر أو كاد يتلاشى مع انكسار العرب والمسلمين في الوقت الذي تسعى فيه أمريكا و«إسرائيل» للانفراد بالسيطرة عسكرياً على البحر الأحمر واستنزاف ثرواته السمكية والبترولية واستغلال موقعه الاستراتيجي.
وفي هذا السياق المتأرجح ذهبت كل الخطط الوطنية والاقتصادية والبرامج الاجتماعية والسياسية في معظم الأنظمة العربية المتخاذلة والخاضعة لإمبراطوريات الغرب والنظام الإمبريالي الاستعماري المحتكر أدراج الرياح، وأصبحت شعوب هذه الأنظمة ضحية لتلك الإمبراطوريات الظالمة ولسياسة الأنظمة العربية المتخاذلة. هل استكمل المشهد تفاصيله كاملة؟! قطعاً، لا، فالمشاهد المعتمة كثيرة والإضاءة تكاد لا تكفي لإنارتها جميعاً.