أعود إلى الكتابة عن ثورة الإمام الحسين بن علي عليه السلام لما لها من أهمية من جانب ومن جانب آخر للرد على تلك الأصوات النشاز التي تعالت تستنكر إحياء هذه المناسبة في الداخل والخارج وكأنهم لا يعرفون من هو الحسين بن علي ولم يستمعوا إلى العلامة عبدالحميد كشك رحمه الله، وهو يشرح ثورة الحسين ودوافعه وصلافة المعتدين الذين نكلوا بابن بنت رسول الله بتلك الطريقة البشعة، وهنا أقول أنه حدث شبه اتفاق وأجماع غير معلن بين كبار علماء المسلمين وأئمة المذاهب المنصفين اكدوا فيه على أن ثورة الحسين السبط مثلت فلسفة خاصة دافعها قوة الإيمان ورغبة الانتصار للدين الذي كادت أركانه تتهالك بفعل الانهيار الذي بدأ يصيب العقيدة في مقتل ، لولا تلك الصرخة الكبيرة التي أطلقها الإمام الحسين وهو يقول (هيهات منا الذلة) فأراد لثورته العظيمة أن تحيي شعيرة للأسف لا تزال غائبة حتى اليوم ويطلقون عليها الفريضة الغائبة ممثلة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذه الثورة لم تخلُ من الإلهام والتوجيه الإلهي الذي عبر عنه الحسين وهو يشير إلى انه ذاهب إلى مصرعه، فلقد سمعته أخته زينب عليها السلام وهو يسترجع فسألته خير يا أخي أجاب (أرى القوم يسيرين ومصارعهم تسير قبلهم)، مع ذلك كانوا فتية آمنوا بربهم وزادتهم الحقيقة الناصعة إصراراً على التضحية والفداء والتمسك بقيم ومبادئ الدين الحنيف ومنها الترجمة العملية لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتجنيب الأمة كل مظاهر الجور والظلم والتصدي للانحرافات الجائرة التي أصابت الدين في زمن الملك العظوظ ولم يكن هدف الحسين القتال من اجل الكرسي أو الوصول إلى الحكم بقدر ما أراد أن يعيد الأمور إلى نصابها الطبيعي كما كانت عليه في زمن جده الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا ما يجعل المنتقدين وأصحاب التأويلات والتفسيرات الزائفة يلوذون بالصمت وإن تعمدوا محاولة إفساد هذه المظاهر الاحتفالية ومواكب العزاء.
وهنا يكفي أن نشير إلى المقولة الشهيرة التي اطلقها الإمام الحسين وعبَّر من خلالها عن هدفه الحقيقي للخروج ومواجهة الآلاف من الظلمة مقابل عشرات من المؤمنين وجلهم من أبناء أسرته حيث قال (ما خرجت أشرا ولا بطرا وإنما بهدف الإصلاح في أمة جدي أو كما قال) والعبارة قدمت مضموناً واضحاً لفلسفة الثورة كما قال العلماء بأن أمور الأمة في تلك الحالة كانت قد وصلت إلى ما يشبه الانسداد والعودة إلى زمن الجاهلية وكأن الحسين مثل مع أصحابه الميامين الصعقة الكهربائية التي أعادت الأمة إلى رشدها وجعلت الجميع يفكرون في التضحية وبذل الأرواح كلما تكالبت أجواء الظلم وحاول الظلمة وأئمة الجور إفساد حياة الناس فكانت هذه الصعقة ضرورية أيقظت الناس من السبات العميق وفتحت آفاقهم على عالم آخر عنوانه الإيمان الصادق بالله سبحانه وتعالى والاستعداد لبذل الروح من اجل نصرة الدين وإزاء هذه المعاني السامية لا شك ان يتضاءلون ويتوارى كل واحدة داخل ذاته بل ويستحي بأن ينبس بكلمة واحدة لو كان لديه دم أو يشعر بحرارة الإيمان وخلافا لذلك سيظل القلة ممن ارتدوا ثوب الدين بملابس جاهلية هي التي تقودهم إلى مزالق الشرك والكفر في أغلب الأحيان ، نجانا الله منها ومنهم ولا شك أنه سيأتي اليوم الذي يدركون فيه خطأ مثل هذه المواقف المهزوزة ، أما الحسين سيبقى في النفوس الزكية ما بقي الدهر يكفي أنه ترجم اهم قاعدة وهي قاعدة انتصار الدم على السيف، فلقد سقط في الميدان عمليا لكن ثورته تخلدت في النفوس وأصبحت محور كل مؤمن صادق ومثلاً اعلى يحتذى به ودافعاً قوياً لإعلاء راية الجهاد في كل زمن يتكالب فيه الأعداء في كل أمة وهي نفسها هذه الثورة معين المجاهدين الأبطال في فلسطين ولبنان والعراق واليمن كلهم يقتدي بالحسين ويعلن البراءة من أعداء الله حينما قال إن مثلي لا يبايع يزيد، أي أن الحسين عليه السلام بما هو عليه من إيمان وصدق وانتماء إلى الرسول الأعظم صلى الله عليه وآل وسلم لا يمكن ان يبايع يزيد بن معاوية الفاسق، هذه الصفة جعلت الإمام الحسن البصري رضي الله عنه يوجب لعن معاوية بن أبي سفيان حيث قال (لقد وجب لعن معاوية بن أبي سفيان لو لم يكن إلا انه ولى ابنه يزيد على رقاب المسلمين وهو يعلم أنه فاسق) .
هذه الشهادة العظيمة التي صدرت عن حجة من حجج المسلمين هي الأخرى تقدم نموذجاً للبشر المؤمنين بالله حق الإيمان ومن لديهم الاستعداد للدفاع عن الدين والتضحية في سبيله رحم الله سيد الشهداء الإمام الحسين ولينعم في أعلى درجات النعيم المقيم الذي وعده الله به خاصة حينما يدرك ان ثورته تخلدت في النفوس ولا تزال معانيها تحرك المشاعر في كل زمن. فيا لها من ثورة ويا لها من فلسفه وما أعظمه من شهيد.
والله من وراء القصد