تجمدت حياتنا في المرحلة الراهنة، مرحلة الهدنة، باستقبال الوفود القادمة إلى صنعاء وتوديعها، وفود حاملة مبادرات السلام والمحبة، وللأسف تغادر والأزمات الإنسانية والعدوان والغدر والقصف والدمار والحصار والجوع لم يغادرنا، وفود لم تستطع أن تدير الأمور بعصا مايسترو تضبط إيقاع السلام، مما جعل الهدنة راكدة كمقطوعة موسيقية نشاز في نشاز.
ولعل ما يؤكد هذه الحقيقة المروعة ذلك الاعتقاد الجماعي الواسع النطاق بأن موتنا بات مؤكداً بعد سقوطنا في حبائل الهدنة الزائفة، ومع تلك الوفود القادمة والمغادرة بدون جدوى، وباتت معاناتنا الآن مضاعفة ونحن نرى إخفاق الحلم وغياب البديل وترسيخ نظام الهدنة الثقيل على أرواحنا وقلوبنا، والفساد أصبح مشروعاً ومقنناً، ومن ضمن آليات مرحلة الهدنة التي أحالت حياتنا إلى جحيم لا يطاق، وشرورها تطغى على كل شيء، تعدم في الإنسان الروح والشعور والفكر والعاطفة والجمال وتخلق منه مجرد عضو همه الوحيد لقمة العيش، مشروعة أو غير مشروعة.
مرحلة تعمل على كسب الوقت وتمزيق الوطن إلى كيانات متصارعة متناحرة، وإلحاقنا بمواكب الجنائز، فليس من سلامة وأمن واستقرار بغير أشرعتنا وإرادتنا، مهما كانت قوة الأعاصير والأمواج والرياح. هكذا فقط نبحر في الزمن الجميل، زمن المقاومة والثورات الإنسانية والمواطنة المتساوية ومحاربة الفساد بمجاديف ذهنيتنا المتفتحة والمتوثبة للوصول إلى شواطئ الأمان والسلام، إلى الأجوبة على الأسئلة العاتبة والغاضبة، والأكثر هيجاناً للتاريخ تطوره الثابت، فهو لا يتقدم إلى الوراء، وفى اللحظات الانتقالية التي يتجاوز فيها التاريخ نظاماً إلى آخر فيكثر اللغط وتتوه الرؤى وسط ضباب كثيف ينبعث من هدير محركات العصر وهو يقلع باتجاه زمن يختلف في قوانينه ومفاهيمه ومفرداته، وفي سعيه نحو فعل أعلى وأفضل من أجل تحرير الإنسان من الاستغلال وفتح أبواب الرزق والسعادة والمعارف أمامه، قيام نظام أكثر إنتاجاً، لأن الإنسان فيه سيكون أكثر حرية وأكثر علماً وتحضراً. تلك هي الضمانات الوحيدة لأي نظام يريد أن يكتب له الخلود والبقاء، وعليه أن ينتج الحلول لكل الأزمات الاجتماعية، أو سيكون كتلك الأنظمة الإقطاعية التي لم تستطع أن تتطور ووقفت في مواجهة التاريخ الذي لا يرحم، ورفضت التطور والمفاهيم والأفكار والتقنيات التي حملها التقدم الإنساني.
ليس هناك سلطة متعالية على التاريخ وإرادة البشر ومتطلبات التطور والتقدم. لا بد لأي سلطة أن تلبي احتياجات الإنسان الاقتصادية والمعيشية والفكرية. ولا بد أن نتجاوز مرحلة الهدنة الزائفة شديدة الالتباس، والتي اضمحلت في غضونها المسافات بين الاستراتيجي والمرحلي، بين الأيديولوجي والسياسي، بين ما يفترض أنه ثابت لا يقبل التحول، ومتحول أخذ يتحول إلى هدنة، إلى نظام يتحكم في شروط اللعبة السياسية ويوجه مساراتها، وكفانا وفوداً قادمة ووفوداً مغادرة.
* نقلا عن : لا ميديا