الاحتلالُ البريطاني وإن كان قد اندحر عسكريًّا عن اليمن في 30 نوفمبر 1967 إلا أنه لم يندحرْ من عقلِ كثيرٍ من النُّخَبِ، الذين ظلوا يروِّجون لثقافته المستوردة لأكثرَ من 50 عاماً، لم تزدد بها اليمنُ إلا ضياعًا بالمعيار الحضاري؛ فلا هم نجحوا في جعل اليمن نسخةً من النموذج الغربي المبهِر (بل أخذوا بعضَ القشور منه فقط).. ولا هم الذين حافظوا على أصالةِ اليمن وتكيَّفوا بهذه الأصالة مع العصر، كما فعلت سلطنةُ عمان مثلًا والتي حقّقت تحوُّلًا متدرِّجًا تناغمت فيه أصالةُ البلد مع جديدِ العصر؛ فقلّصت بذلك حجمَ الفجوة بين النُّخَب وبين الشعب.
وقد أثبتت معركةُ غزة 2023 أن ما تخلت عنه النُّخَب بشعاراتها “التقدمية” إنما تخلَّت به عن نقاط قوة الأُمَّــة وفاقمت به نقاطَ ضعفها؛ فلو تعرَّضت الجيوشُ العربية لبعض ما تعرضت له كتائبُ القسام 2023 أَو حزب الله 2006 أَو أنصار الله 2015 لانهارت جميعُها خلال أَيَّـام.
لذلك فما يطرحُه بعضُ النُّخَب كمشكلة يصطلحون عليها بـ “الإسلام السياسي” تبيَّنَ للشعب العربي المتعطِّشِ للكرامة أنَّها هي الحلُّ.
فالصلحُ مع الذات والتمسُّكُ بتفاصيل الدين والعملُ على تحصيل الأسباب المادية للنصر، هذا هو الذي سيجعلُ من العرب قوةً لا يمكن هزيمتُها.
أَمَّا الشعاراتُ المستورَدةُ للنُّخَب فقد انتهت بهم من الاحتفال الشكلي بيوم الاستقلال إلى التنظير الفعلي للخضوع تحت بوط الامبريالية؛ بحُجّـَةِ “الحرص على الحياةِ” أية حياةٍ.. حتى لو كانت حياةَ ذل وهوان يحرص عليها العبيدُ والجواري ويأباها الأحرارُ والشرفاءُ؛ لأَنَّها هي الموت الحقيقي.
“تنظيرٌ لإعادة الاحتلال البريطاني لكن بصِيَغٍ غيرِ مباشرة”
في 30 نوفمبر يحتفل اليمانيون بيوم الجلاء كُـلٌّ على طريقته..
تقرأ مقالًا للدكتور ياسين سعيد نعمان كانت النقطةُ الجوهريةُ فيه هي التأكيد على وحدةِ الجنوب ومركَزيةِ حضرموت في هذه الوحدة؛ لأَنَّ دعواتِ الانفصال التي راجت بين الجنوبيين خلال العقدَينِ الماضيين كانت لها آثارٌ جانبية مسّت وحدة الجنوب نفسه حتى بات أمرُ انفصال حضرموت حاضرًا أكثرَ من عودة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبيّة! ونخشى أن يضطر الإخوة الجنوبيون مع خطرِ استقلال حضرموت أن نسمعهم قريبًا يُردّدون شعار “الوحدة أَو الموت” لمواجهة تفتت الجنوب إلى سلطنات وكنتونات متناحرة! وهكذا يُصيبُ السمُّ حاملَه أَوَّلًا.. “وَلَا يَحِيقُ المَكرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهلِهِ”.
مثقَّفٌ آخرُ احتفل بمناسبة انسحاب بريطانيا في 30 نوفمبر لكن بترويج الأيديولوجية البريطانية وإعلان ولائه لبعض مصطلحاتِها السياسية؛ باعتبارها مكتسباتٍ حصل عليها اليمانيون يوم الجلاء! لقد تجاهَلَ تماماً كيف تحوَّلت الديمقراطيةُ بالتجربة أمام عينَيه إلى ديكتاتوريات عسكرية ومحاصَصات عشائرية واختراقات خارجية للداخل.
وكيف انتهت الجمهوريةُ لتُصبح مَلَكيةً سُلاليةً تحت الوصاية السعوديّة، لا برنامج سياسيًّا لها إلا الرقص على رؤوس الثعابين بصناعة الفِتَنِ الطائفية والعشائرية والعِرقية والمذهبية وتفتيت النسيج الاجتماعي؛ ليغرَقَ الجميعُ في صراعات داخلية مزمنة.
وبدوره ألقى الرئيس مهدي المشاط كلمةً مقتضبةً بمناسبة 30 نوفمبر أكّـد فيها على نقاطٍ هامة لفت نظري منها نقطتان:
الأولى: هي “استقلالُ قرار اليمن من الهيمنة الأمريكية”.
والنقطة الثانية: هي “نصرة فلسطين”.
ولعل هاتَين النقطتَين هما أكثرُ ما يُلائمُ مناسبة 30 نوفمبر؛ باعتبارها ذكرى “استقلال وتحرير”..
وقد أشار الرئيس المشاط في كلمته أَيْـضاً إلى تحكيمِ 30 نوفمبر لاستعادة اللُّحمة الوطنية وحذَّر التحالفَ من تضييعِ فُرصةِ السلام والوقوع في فَخِّ تجار الحروب؛ فاستمرارُ الحرب ليس من مصلحة اليمن ولا جيرانه.