هناك سؤال أركيولوجي طرحه عالم التاريخ المفكر العراقي الدكتور فاضل الربيعي مؤخراً في سياق سردياته التاريخية الجديدة: لماذا صمت علم الآثار اليمني عن كثير من الحقائق التي وردت في النقوش اليمنية وكانت تتناقض مع التاريخ السائد “الزائف”؟
هذا سؤال سأله صديقي الراحل الدكتور هشام عبدالعزيز ناشر، أستاذ تاريخ اليمن القديم (الله يرحمه). كنا في زيارة قصيرة في منتصف عام 2006 إلى صنعاء معا ونحن في سنة الدكتوراه التمهيدية، هو في قسم التاريخ وأنا في قسم الفلسفة. وكنا مهمومين بتحديد إشكالية الأطروحة، ولم نحدد بعد عنوانها، لا أنا ولا هو، بصورة قطعية، ولقد عزم حينها الكتابة عن طرق التجارة في الحضارات اليمنية القديمة، واستغل وجوده في صنعاء حينها بحثاً عن مراجع، وكان لزاماً عليه أن يزور المركز الثقافي الفرنسي، والتقى برئيس المركز حينها أظن كان اسمه منير عربش، وخلال لقائه به سأله عن النقوش وإذا كان هناك كتيبات فيها ترجمة للنقوش من اللغة المسندية.
وعند عودته، قال لي الدكتور هشام (الله يرحمه) بأن منير عربش أخذه إلى غرفة فيها حوالى ثلاثة آلاف لوح، مخزنة داخل صناديق بطريقة سيئة، ومهملة، ولم يتم ترجمة أيٍّ منها، حتى أن المرحوم قال لي: رغم أن الدراسات العليا في أقسام التاريخ في الجامعات اليمنية لها سنوات غير المبتعثين إلى الخارج، لماذا لم يتم الاستفادة منها في دراسة هذه النقوش؟! وأردف قائلاً: أحس أن هناك عملا مقصودا من وراء هذا الإهمال وموجها. وسأل: لماذا هذا الإهمال؟! ومن وراءه؟! وماذا يستفيد؟!
حينها، وفي سياق حوارنا، طرحت له إجابة افتراضية من فلسفة التعليم القائمة، عزوتها للفكر الوهابي المسيطر على الجبهة التعليمية، فهذا الفكر لديه خصومة مع علم الآثار تحديداً، وعلم التاريخ عموماً، فوفقاً لهذا الفكر يعتبر كل ما جاء قبل الإسلام جاهلية، ويريد هذا الفكر تكريس فكرة مفادها أن التاريخ يبدأ بالإسلام، وهو ما يتسق مع موقف نظام المملكة الطارئ التي شنت عند تأسيسها حرباً ضد كل ما يمت للتاريخ والآثار، وهدمت كل الأماكن التاريخية في المملكة والقباب والمعالم الدينية للصوفية، حتى أنها كانت ستهدم قبر الرسول تحت شعار أن بقاءه وثنية، لولا تدخل الأزهر الشريف حينها في هذا الأمر.
ولقد كان صديقي الراحل هشام ناشر باحثا من الطراز الرفيع ويضع دائماً علامة استفهام على كل أمر يصادفه، ويظل هذا السؤال يزن عليه حتى يحصل على إجابة عليه. وأثناء بحثه وكتابته لأطروحته، التي استعان فيها بأساتذة ترجموا له بعض النقوش التي حصل عليها مصورة في كتاب من إصدارات المركز الثقافي الفرنسي، وأتذكر أن أحد النقوش كان يتحدث عن حرب نشبت بين مملكتين والملك المنتصر يصف فيها متفاخراً ما كسبه منها.
وأتذكر حينها أن الدكتور هشام أعادني إلى سؤالنا الذي أثاره في صنعاء وذكرني به، وقال لي: يبدو لي أن هناك حاجة لدى سلطة اليوم السياسية في إخفاء وطمس مثل هذه النقوش، ربما حرصاً من سلطة الغلبة الراهنة الممتدة منذ نصف قرن على سلطتها من هذه الدلالات التاريخية على طبيعة حاضر الصراع. ورجحنا أن يكون سبباً آخر أيضاً.
وضمن السياق نفسه أعتقد أن أسئلة وقراءات الدكتور فاضل الربيعي التاريخية والأركيولوجية ورؤيته الجديدة للتاريخ التي اصطدمت مع التاريخ السائد سيكون لها أثر في إعادة تشكيل الفضاء السياسي للمنطقة برمتها، فهي تنسف التاريخ السائد “المختلق والمزيف” الذي وضع أسس كتابته علماء آثار وتاريخ استعماريون تخدم مصالح استعمارية، إذ تم بموجبه رسم خرائط المنطقة السياسية، لكي تخدم مصالح المستعمر.
لقد كان المستعمر يدرك دور التاريخ والحضارة في البنى والنظم السياسية ومدى تأثيرها الروحي في بناء الهوية، ناهيك عن دوره في إكساب هذه النظم السياسية المتانة والقوة. الشعوب الممتدة في تاريخها وحضارتها شعوب ممتدة في مستقبلها، ويكون أساسها الوجودي قويا يصعب انتزاعها أو إفناؤها، ولذا تجد كل الشعوب والدول ذات التاريخ والحضارة تعتز بماضيها وتتغنى برموزها التاريخية وتخلد ذكراهم ومآثرهم وتدرس أمجادهم، لأنها تغدو جزءا من البناء الروحي لها. وتكون عصية على الانقياد والتبعية.
ولذا فإن الخروج من النير الاستعماري يبدأ من لحظة الخروج من سردياته، وباتت مهمة إعادة كتابة التاريخ جزءاً لا يتجزأ من معركتنا معه ومع أذنابه في المنطقة.
* نقلا عن : لا ميديا