تفاقم تكاليف الإنتاج، سواء في المشاريع الصناعية أو الخدمية التجارية، يحد نمو المشاريع، ناهيك عن تقليص العمالة، أي يذهب أصحاب الأعمال إلى تقليل العمالة للحيلولة دون فشل مشاريعهم أو إفلاسها، والتكاليف الباهظة تجعل رؤوس الأموال تعزف عن إقامة مشاريع صناعية، تلك التي تحتاج إلى عمالة كبيرة وتستغرق وقتاً في إقامتها، ويتجه أصحاب رؤوس الأموال إلى المشاريع التي تدر ربحا سريعا وبأقل عمالة ممكنة، ومعظم هذه المشاريع مشاريع توكيلات تصريف بضاعة تنتجها شركات خارجية، ولهذا السبب درجت حكومات بعض الدول من أجل تشجيع الاستثمار في المشروعات الصناعية الكبيرة التي تستوعب عمالة كبيرة إلى سن قوانين استثمار فيها إعفاءات ضريبية لفترات تتراوح بين خمس وعشر سنوات، وذلك بهدف توفير فرص عمل تمتص فيها البطالة، لأنها مشكلة تقلق أية سلطة.
والدولة التي تعتمد على الاقتصاد الريعي، سواءً كان الريع ثروات نفط وغاز أو معادن نفيسة أو كان ضرائب ورسوم خدمات، فإنها دولة معرضة للفشل، إذا لم تتحول إلى دولة اقتصادها إنتاجي نفقات إدارتها أقل من إيراداتها، ودولة كهذه تحتاج لأن تكون بيئتها الاستثمارية جاذبة وليست طاردة.
ومن أجل توفير البيئة الجاذبة ينبغي أن تحد الدولة من الفساد بكل أنواعه، من الفساد المالي والفساد الإداري وفساد القوانين. ومن أجل النجاح تسعى إلى وضع قوانين تحمي الاستثمار من العسف والابتزاز، والأهم من ذلك يكون لديها العزم والإرادة لتطبيق القوانين.
زيادة الضرائب والرسوم يمثل بيئة طاردة للاستثمار، ناهيك عن أنها تدفع أصحاب رؤوس الأموال إلى الهجرة والبحث عن بيئة آمنة لرؤوس أموالهم، ويرافق هروب رؤوس الأموال تداعيات فقدان وظائف وفرص عمل كانت متوفرة وزيادة في حجم البطالة وفقدان الدولة لإيرادات أكثر فأكثر، وقد تصل الدولة إلى مرحلة الإفلاس، ولذا فإن تسيير أمور الدولة يحتاج إلى علم إدارة ومن خلاله يتم اختيار القرارات والإجراءات المناسبة. لا تبنى الدول بالعفاطة والعفاجة، وقد تستطيع أن تبني بها سلطة، لكن من المستحيل أن تساعدك على بناء الدولة.
ولقد نبه عالم الاجتماع عبدالرحمن بن خلدون إلى خطورة زيادة الجباية على بقاء الدولة: «إذا كثرت الجباية، أشرفت الدولة على النهاية». ولذا زيادة إيرادات الدولة يحتاج إلى زيادة في المشاريع الاستثمارية، وكلما كانت المشاريع في ازدياد مطرد والضرائب القليلة من مشاريع كثيرة تكون كثيرة، وفق معادلة اقتصادية وتجارية تقول «قليل الكثير كثير». أكثروا من المشروعات الاقتصادية لتحصلوا على نمو في إيرادات الدولة، ولا تزيدوا إيرادات الدولة من تصاعد الضرائب والرسوم على المشروعات القائمة. واحذروا ومرتزقته يتجهون إلى سحب رؤوس الأموال إلى المناطق الواقعة تحت الاحتلال.
مقتطف من مقدمة ابن خلدون:
«الدولة إن كانت على سنن الدين فليست تقتضي إلا المغارم الشرعية من الصدقات والخراج والجزية، وهي قليلة الوزائع، لأن مقدار الزكاة من المال قليل كما علمت. وإن كانت على سنن التغلب والعصبية فلا بد من البداوة في أولها كما تقدم، والبداوة تقتضي المسامحة والمكارمة وخفض الجناح والتجافي عن أموال الناس، والغفلة عن تحصيل ذلك إلا في النادر، فيقل لذلك مقدار الوظيفة الواحدة، والوزيعة التي تجمع الأموال من مجموعها. وإذا قلت الوزائع والوظائف على الرعايا نشطوا للعمل ورغبوا فيه، فيكثر الاعتمار ويتزايد محصول الاغتباط بقلة المغرم، وإذا كثر الاعتمار كثرت أعداد تلك الوظائف والوزائع، فكثرت الجباية التي هي جملتها. فإذا استمرت الدولة واتصلت، وتعاقب ملوكها واحداً بعد واحد، واتصفوا بالكيس، وذهب شر البداوة والسذاجة وخلقها من الإغضاء والتجافي، وجاء الملك العضوض والحضارة الداعية إلى الكيس، وتخلق أهل الدولة حينئذ بخلق التحذلق، وتكثرت عوائدهم وحوائجهم بسبب ما انغمسوا فيه من النعيم والترف، فيكثرون الوظائف والوزائع حينئذ على الرعايا والأكرة والفلاحين وسائر أهل المغارم، ويزيدون في كل وظيفة ووزيعة مقداراً عظيماً لتكثر لهم الجباية، ويضعون المكوس على المبايعات وفي الأبواب كما نذكر بعد، ثم تتدرج الزيادات فيها بمقدار بعد مقدار لتدرج عوائد الدولة في الترف وكثرة الحاجات والإنفاق بسببه، حتى تثقل المغارم على الرعايا وتنهضم وتصير عادة مفروضة، لأن تلك الزيادة تدرجت قليلاً قليلاً ولم يشعر أحد بمن زادها على التعيين، ولا من هو واضعها، إنما تثبت على الرعايا كأنها عادة مفروضة. ثم تزيد إلى الخروج عن حد الاعتدال، فتذهب غبطة الرعايا في الاعتمار لذهاب الأمل من نفوسهم بقلة النفع، إذا قابل بين نفعه ومغارمه...».
* نقلا عن : لا ميديا