14 أكتوبر ثورة تحرر وطني، جاءت نتيجة تاريخية لتطور الحركة الوطنية في الجنوب اليمني المحتل، في النصف الأول من القرن العشرين، وتطور القوى السياسية الديمقراطية في شمال الوطن. وقد تداخل نضال الحركة الوطنية اليمنية في شمال الوطن وجنوبه في ثورتي سبتمبر وأكتوبر.
قامت ثورة 14 أكتوبر بصورة رئيسية ضد الاستعمار البريطاني وركائزه المحلية من السلطنات ونمط الإنتاج الإقطاعي الذي قامت عليه. ولم تكن شرارة الثورة في ردفان إلا إيذانا بأن الشعب اليمني بات مستعداً لمواجهة التسلط والاستغلال الاستعماري السلاطيني.
انطلقت الثورة من الريف والمناطق المحاذية للمحافظات الشمالية، لتندمج الجبهة المسلحة مع نضال أبناء المدن، المدني النقابي والعمالي والسياسي... وبخلاف التمردات القبلية والنضالات السابقة التي كانت مشتتة، وفرت الجبهة القومية التنظيم الذي وحّد النضالات الريفية والمدنية على أساس أولوية الكفاح المسلح، إلى جانب الأشكال النضالية الأخرى، وبناء على برامج عمل كفاحية مخططة.
استمرت الثورة خمس سنوات، من 14 أكتوبر 1963 حتى 30 نوفمبر 1967، واجهت خلالها تحديات عسكرية وأمنية وسياسية مختلفة، داخلية وخارجية؛ لكن الجبهة القومية واصلت الكفاح والنضال الشامل حتى تحقيق الاستقلال الوطني الناجز.
تميزت ثورة 14 أكتوبر بكونها موجهة نحو العدو الأجنبي الاستعماري، إلى جانب القضايا الاجتماعية الديمقراطية؛ فهي الثورة الوطنية اليمنية الحديثة التي بُنيت على أساس الفهم الجديد لمهام التحرر الوطني.
كان من الطبيعي أن يظهر مفهوم التحرر الوطني في الثقافة السياسية اليمنية الحديثة من تجربة ثورة 14 أكتوبر؛ لكونها قامت ضد نظام استعماري إمبريالي، وفي ظروف نهوض حركات التحرر في العالم عقب الحرب العالمية الثانية وانهيار نظام الاستعمار الإمبريالي القديم.
تاريخياً، يُعد عبد الله عبد الرزاق باذيب أول من تطرق إلى القضية الوطنية اليمنية بمفاهيمها الحديثة، في كتاباته الصحفية منذ الخمسينيات وفي «الميثاق الوطني» للاتحاد الشعبي الديمقراطي، الذي صدر عام 1961، وكتيب «حركتنا الوطنية إلى أين تتجه؟»، الذي كتبه علي باذيب، أحد قيادات التيار الماركسي في اليمن، وصدر عام 1961 عن «لجنة مقاطعة إسرائيل».
أدرك ثوار 14 أكتوبر أن ثورتهم وطنية؛ ولكن دون استيعاب المفهوم بشكل دقيق، فقد انطلقت الثورة من الواقع لا من النظرية، وطوال سنين الثورة تطورت المعركة الوطنية ومعها استيعاب أعمق لمهام التحرر الوطني، فقد تطور استيعابهم النظري بتطور المهام تحت إلحاح الواقع.
القضية الوطنية في ثورة 14 أكتوبر المجيدة
تطور فهم ثوار 14 أكتوبر للقضية الوطنية وأبعادها المختلفة خلال الممارسة الثورية، مع مواجهة التحديات الثورية، ومع بروز المهام الجديدة، فكانت حركة الفكر المترابطة مع النشاط تتعمق أكثر فأكثر، ويرتقي الخطاب الوطني من التجريد النظري إلى المهام الملموسة، بداية من الميثاق الوطني للجبهة القومية الذي صدر عام 1965 وصولاً إلى برنامج استكمال مهام الثورة الوطنية الديمقراطية أواخر عام 1968، وهي الفترة موضوع التناول هنا، باعتبار أن الأفكار الوطنية خلال هذه الفترة كانت تعبر بصورة رئيسة عن التنظيم القائد لثورة 14 أكتوبر من بداية الثورة حتى تشكيل أول حكومة ثورية.
يُعد الميثاق الوطني للجبهة القومية (1965) أول وثيقة نظرية عبر فيها التنظيم القائد للثورة عن نظرته للقضية الوطنية والوحدة اليمنية، ووحدة أراضي الشطر الجنوبي من الوطن، وخصوصاً جزره، والطبيعة الاستعمارية السياسية والاقتصادية والعسكرية والأهمية الجيوبوليتيكية لعدن، وطبيعة التغيير المنشود، حيث يؤكد الميثاق أن الثورة لا تهدف إلى جلاء المستعمر من المنطقة فحسب، بل وإلى تغيير الواقع الاجتماعي الذي صنعه الاستعمار تغييراً جذرياً، بكل مفاهيمه وقيمه وعلاقاته الاجتماعية والسياسة الدولية.
وكان «مؤتمر زنجبار» بعد الاستقلال (آذار/ مارس 1968) انتقالاً من التنظير الثوري العام إلى تحديد القضايا التي واجهتها قوى الثورة عقب استقلالها. وكان أبرز التحديات التي تهدد جنوب اليمن المستقل حديثاً هو الحرب السعودية الغربية على النظام الجمهوري الوليد في صنعاء. كما أكدت قرارات «مؤتمر زنجبار» التضامن مع الشعوب المناضلة ضد الاستعمار والإمبريالية والصهيونية. فثورة 14 أكتوبر بعد أن انتصرت وجدت أنها مطوقة بالوجود الاستعماري. ونلاحظ هنا أن التحرر الوطني بات مشروطاً بانتصار الجمهورية في شمال اليمن، وانتصار قوى الثورة في المحيط الدولي.
في البرنامج الوزاري لحكومة الثورة في حزيران/ يونيو 1968 تعمق فهم القضية الوطنية، ومهام التحرر الوطني، وباتت مسألة مواجهة الثورة المضادة (السلاطينية الإقطاعية والغزو الأجنبي المدعوم من الاستعمار والرجعية الخليجية) جزءاً من مهام التحرر الوطني. كما واجهت الثورة تحديات اقتصادية وأمنية، وتسليم بريطانيا جزءاً يمنياً لسُلطان عُمان، فاتسعت قضية التحرر الوطني، وتجاوزت المهمة المباشرة إبان الكفاح المسلح، المقتصرة على طرد الانجليز وتوحيد السلطنات؛ ففي هذه المرحلة بات الدفاع عن الاستقلال الذي تحقق، وضمان معيشة الشعب، عنصرين رئيسين في ضمان الاستقلال الوطني، وجزءاً من فهم قضية التحرر الوطني.
لاحقاً، في تشرين الأول/ أكتوبر من العام 1968 نفسه، صدر برنامج استكمال مهام الثورة الوطنية الديمقراطية. وكان الفهم الأكثر نضوجاً للجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل. وباتت مهام التحرر الوطني أكثر شمولية وأدق في تحديدها، حيث بات العمل المبرمج والتخطيط في بناء الدولة وتحديد المهام بدقة جزءاً من مهمة التحرير الوطني، أي أن قوى الثورة قررت الانتقال من الاعتماد على التنظيم الثوري في الدفاع العسكري عن الوطن، إلى بناء الدولة والجيش الثوريين المعنيين بضمان الحرية والسيادة الوطنيتين، وإقامة العلاقات السياسية التحررية مع المحيط والعالم، أي الانتقال من الاستناد إلى الريف والقوى الذاتية في طرد الاستعمار وخوض المعركة في نطاق جنوب الجزيرة العربية، إلى دعم حركات التحرر في المحيط الخليجي، والاصطفاف مع قوى الثورة في العالم، ومواجهة الاستعمار الإمبريالي والصهيونية في النطاقين الإقليمي والعالمي.
يمكن أن نستنتج من كل ذلك أن فهم قوى ثورة 14 أكتوبر للقضية الوطنية كان متدرجاً، وكان تطوره موضوعياً، من خلال الممارسة ومواجهة التحديات الجديدة، أي أن أهداف الثورة لم تؤخذ جاهزة من تجربة سابقة، ولم يكن المكون القائد لثورة 14 أكتوبر موجهاً من دولة أجنبية لينفذ مهام محددة مسبقاً؛ فطبيعة استقلالية القوى القائدة لثورة 14 أكتوبر وانطلاقها من الواقع الموضوعي المحلي لبناء خياراتها السياسية والعسكرية وعلاقاتها الدولية من أهم ما ميز هذه الثورة المجيدة.
الميثاق الوطني للجبهة القومية
يُعد الميثاق الوطني للجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل، الذي وافق عليه المؤتمر الأول للجبهة الذي انعقد في الفترة 22 ـ 25 حزيران/ يونيو 1965، أول وثيقة نظرية تطرح فيها قضية التحرر الوطني وتقدم الجبهة القومية مفهومها عن التحرر الوطني. وفي حقيقة الأمر فهو مفهوم حركة القوميين العرب، التي ضمت إليها الفصائل الوطنية وظهر ما يسمى بالجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل(1).
جاء في بداية الميثاق الوطني التأكيد على وحدة اليمن، وهو أحد العناصر البارزة في مفهومهم للتحرر الوطني الملازم للاستقلال: «إن المنطقة اليمن شمالاً وجنوباً ظلت تشكل وحدة طبيعية متكاملة ويجمع شعبها روابط وعوامل كثيرة. منها وحدة الأرض ووحدة اللغة ووحدة المعاناة اليومية للحياة ووحدة المصلحة ووحدة المصير، وقد تجسدت هذه الوحدة على مستواها السياسي في عصر الإسلام في دول متعددة تعاقبت على المنطقة».
ينتقل الميثاق من تأكيد الهوية إلى ذكر المميزات الجيوبوليتيكية لليمن، وخصوصاً مدينة عدن، بالقول: «إن عدن لكونها مركزاً تجارياً مرموقاً ومدخلاً إلى منطقة هامة تحمي الاتصال التجاري والحر بين مناطق آسيا وأفريقيا كلها، ظلت تجذب اهتمام الغرب والشرق إليها باستمرار خلال تاريخها الطويل. إن عدن -إلى جانب الدافع الاقتصادي لاحتلالها- تبرز أهميتها كمنطلق تجاري إلى مناطق واسعة في الشرق الأوسط ونقطة استراتيجية تدخل ضمن مخطط عالمي للمحافظة على البقاء الاستعماري في بلاد آسيا وأفريقيا».
بعد تأكيد وحدة اليمن وذكر المميزات الجيوبوليتيكية، يعبر الميثاق الوطني عن مفهوم التحرر الوطني، وهو لا يقول صراحة إن مفهوم التحرر الوطني من وجهة نظرنا يعني كذا وكذا، بل يُعبر عنه عندما يطرح تصورات الجبهة القومية لغايات الكفاح المسلح وحرب التحرير الشعبية.
جاء في الميثاق الوطني: «إن الثورة المسلحة التي اكتسحت الجنوب كتعبير عن إرادة شعبنا العربي، وكأسلوب أساسي للمقاومة الشعبية ضد الوجود الاستعماري ومصالحه وركائزه ومؤسساته المستغلة للشعب، إن هذه الثورة لا تهدف إلى جلاء المستعمر من المنطقة فحسب، وإنما هي حركة دائبة تعبر عن عقيدة للحياة شاملة وراسخة لدى شعبنا تستهدف أساساً تغيير الواقع الاجتماعي الذي صنعه الاستعمار تغييراً جذرياً في كل مفاهيمه وقيمه وعلاقاته الاجتماعية القائمة على الاستغلال والاستبداد، وتحدد بالضرورة نوع الحياة التي يريدها شعبنا ونوع العلاقات التي يسير متجها إليها، على مستوياته المحلية والإقليمية والقومية والدولية».
من الفقرة السابقة نستنتج أنه يقصد بالتحرر الوطني الاستقلال السياسي والعسكري عن الهيمنة الاستعمارية المباشرة بصورة رئيسة، وكذلك إزالة مخلفات الاستعمار بتغيير الوقع الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية الاستغلالية الاستبدادية التي أرساها الاستعمار، وتغيير العلاقات السياسية الدولية لليمن بعد الاستقلال.
ينتقل الميثاق من التعميم إلى التفصيل: «إن وجود القواعد العسكرية الاستعمارية في جنوب اليمن المحتل يشكل في الحقيقة اعتداء صارخاً على سيادة الشعب العربي لجزء من أرضه، كما يمثل أيضاً حماية مستمرة لاستغلال الرأسمال الاستعماري لخبرات شعبنا في المنطقة، ويدعم في الوقت نفسه قوى الاستغلال المحلية المتمثلة في الرأسمال المستغل والحكم السلاطيني الرجعي العميل ويكون نقطة وثوب وعدوان على الوطن العربي الكبير وشعوب آسيا وأفريقيا، ويشكل تهديداً مستمراً للأمن والسلام العالميين».
«إن الثورة المسلحة التي يخوضها شعبنا العربي في جنوب اليمن المحتل لا تستطيع أن تستبدل الأوضاع الاجتماعية المستغلة، ولن تتمكن من تغيير تلك العلاقة الاستعمارية القائمة على التبادل الرأسمالي المستغل، بإيجاد أوضاع اجتماعية مغايرة لصالح جماهير الشعب المحرومة، إلا بتحطيم الأدوات السياسية القائمة على قمة تلك الأوضاع. إذن، فإن إسقاط الحكم السلاطيني الرجعي العميل، والقضاء على المؤسسات الاستعمارية، هدف فوري ومباشر وعاجل تلتزم الثورة بتحقيقه».
«إن جنوب اليمن المحتل يتكون جغرافياً وسياسياً من عدن وما يسمى بالمحميات الشرقية والغربية وجزر كوريا موريا وكمران وميون وسقطرى وجميع الجزر الواقعة على الساحل المقابل للمنطقة غرباً وجنوباً. كما أن أي خطة استعمارية لفصل المنطقة أو تجزئتها إلى كيانات، أو حجز أي من هذه الجزر، لاستمرار احتلالها أو استخدامها كقواعد حربية احتياطية للاستعمار، يعتبر ذلك كله انتقاصاً سافراً لحرية شعبنا في الجنوب، لذا فإن جزر كوريا موريا وميون وكمران وسقطرى وجميع الجزر الواقعة على الساحل المقابل للمنطقة غرباً وجنوباً جزء لا يتجزأ من الجنوب، وتحريرها هدف حيوي تحتمه ضرورة الثورة ويدخل ضمن استراتيجيتها».
«إن الشعب العربي في إقليم اليمن، شماله وجنوبه، جزء من الأمة العربية، وإن إقليم اليمن جزء لا يتجزأ من الوطن العربي، وتربطه وحدة تاريخية ونضالية ومصيرية مشتركة، لذا فإن إعادة وحدة شعبنا العربي في إقليم اليمن، شماله وجنوبه، سيراً نحو وحدة عربية متحررة، مطلب شعبي وضرورة تفرضها متطلبات الثورة، وجب أن تتم على أسس شعبية وسلمية».
«إن القواعد العسكرية التي تنبع في حقيقتها من أهداف السيطرة الاستعمارية الرأسمالية على الشعوب المتخلفة، وإن الأحلاف والتكتلات الاستعمارية على مختلف المستويات العسكرية والاقتصادية، والتي هي في الأساس عملية تنسيق بين مصالح الدول الاستعمارية الناتج عن نمو وتعاظم حركة التحرر الوطني في البلدان المتخلفة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، إن هذه القواعد العسكرية يجب محاربتها على مختلف المستويات ومختلف الوسائل؛ لا لكونها موجهة لإضعاف كيان واستغلال الشعوب المتحررة والنامية؛ ولكن لكونها تهدد أيضا السلام العالمي وتهدد في الوقت نفسه سلامة البشرية بمجموعها».
يتضح مما سبق أن مفهوم التحرر الوطني يتحدد بإزالة الوجود الاستعماري بشتى أشكال وجوده ومظاهره أو نفوذه، وركائزه المحلية، ومنها السلطنات والمحميات الشرقية والغربية، ونمط الإنتاج الاقتصادي الإقطاعي، والتشديد على وحدة أراضي جنوب اليمن المحتل وجزره، وتصفية القواعد العسكرية، وربط قضية التحرر الوطني بالوحدة اليمنية والوحدة اليمنية بالوحدة العربية، أي بتعبير آخر فهو تحرر وطني يمني، لا تحرر وطني جنوبي، وكذلك ربط مفهوم التحرر الوطني بقضية الوحدة العربية، وربط التحرر الوطني بقضية مواجهة الاستعمار الإمبريالي على المستوى العالمي.
الخلاصة:
يمكن القول بأن مفهوم التحرر الوطني لقوى ثورة 14 أكتوبر، يتألف من المهام أو العناصر التالية: التحرر من الاستعمار العسكري والسياسي البريطاني، وإزالة السلطنات، وتوحيد أراضي وجزر الشطر الجنوبي من اليمن، وضمان الاستقلال السياسي وصون السيادة الوطنية في مواجهة الثورة المضادة، ودعم النظام الجمهوري في شمال الوطن، وربط قضايا التحرر الوطني بالتحرر الاجتماعي من الاستغلال، وقطع التبعية الاقتصادية بالرأسمالية العالمية، وتجاوز واقع التخلف الذي كرسه الاستعمار الإمبريالي، وبناء دولة ديمقراطية شعبية، والتضامن مع نضال الشعوب العربية ضد الاستعمار والصهيونية، وكفاح شعوب العالم ضد الإمبريالية العالمية، والانتقال من مواجهة الاستعمار في الوطن إلى مواجهته في العالم، باعتبار البلد جزءاً من حركة الثورة العالمية.
هامش:
(1) تشكلت الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل من اتحاد الفصائل والقوى المؤمنة بنهج الكفاح المسلح لمواجهة الاستعمار البريطاني، وهي: حركة القوميين العرب في جنوب اليمن المحتل، تشكيل القبائل، الجبهة الناصرية، التنظيم السري للضباط والجنود الأحرار، جبهة الإصلاح اليافعية، المنظمة الثورية لأحرار جنوب اليمن المحتل، والجبهة الوطنية.
* نقلا عن : لا ميديا