أكبر خطأ اقترفه اليمنيون في مصالحتهم نهاية ستينيات القرن الماضي أنهم قبلوا بمقررات المملكة في التربية الإسلامية في الشطر الشمالي من الوطن اليمني، في مقابل تحمل المملكة الإنفاق على قطاع التربية والجيش، وظنوا أنه حل للإشكال المذهبي، الأمر الذي أثقل البلد بغزو فكري ظلامي متمثل بالوهابية كان سبباً مباشراً لكل مشاكله ولجوئه إلى حلها بالحروب الدائمة. ولقد هيمن هذا الفكر على عقول جيل صار يدين بالولاء والعمالة للمملكة وقضى على ثقافة البلد الأصلية. ولذا تغيير مقررات التدريس على أسس علمية ذات أبعاد وطنية ودينية مستمدة من موروثه الثقافي والمذهبي بات ضرورة ملحة لا تقبل التأجيل!
لقد ظل الجنوب بعد الاستقلال معتمداً على المناهج المصرية وقليل من المناهج اللبنانية في تدريس تلاميذ المراحل الأساسية، وظلت امتحانات المرحلة الثانوية النهائية الوزارية معتمدة على مصر، ويتم تصحيح الامتحانات الوزارية للصف الثالث الثانوي بقسميه الأدبي والعلمي في مصر حتى العام 1975، إن لم تخني الذاكرة.
وعندما شرعت الدولة في وضع مناهج تربوية خاصة من وقت مبكر ابتعثت عدداً من التربويين لدراسة علم المناهج ومعظمهم درسوا في ألمانيا. وفي عام 1976 عقدت الدولة «المؤتمر التربوي الأول»، حددت فيه فلسفة التعليم المرجوة من العملية التعليمية. وخرج المؤتمر بمجموعة من الخطوات لتغيير المناهج، على أن تبدأ بتغيير منهجي الصفين الأول الابتدائي والخامس الابتدائي في السنة الأولى، وفي السنة التي تليها يتم تغيير مقرري الصفين الثاني والسادس الابتدائيين، والعام الذي يليه الصفين الثالث والسابع، والعام الذي يليه الصفين الرابع والثامن... وخلال أربع سنوات صارت مناهج التلاميذ من الأول الابتدائي حتى الثامن الابتدائي يمنية خالصة. وفي الأربع السنوات اللاحقة تم وضع مقررات الأول الثانوي، ثم الثاني الثانوي والثالث الثانوي والرابع الثانوي، وبعد ثماني سنوات صارت مناهج التعليم ميمننة.
ما أريد أن أقوله إنه ليس بالضرورة أن نقتفي هذا الإجراء؛ لأنه كان محكوماً بقلة الإمكانيات والخبرات التربوية واحتاج التغيير أن يكون تدريجياً. أما اليوم فأظن أن البلد مليء بالكفاءات والخبرات التربوية وبإمكانها أن تعد مناهج تربوية؛ لكنها بحاجة إلى محددات ورؤى تضع لهم فلسفة التعليم التي ينبغي أن يسترشدوا بها، خصوصاً لمقررات الاجتماعيات والإنسانيات، أما العلوم الطبيعية (الفيزياء والرياضيات والكيمياء والأحياء...) في اعتقادي فليس فيها إشكال.
وعليه، مهدوا لذلك بمؤتمر تربوي يشارك فيه الكفاءات التربوية من بين تربويي الوزارة وكليات التربية في الجامعات اليمنية للخروج برؤية وتصور حول فلسفة التربية التي نريدها، وكذلك آليات كتابة المناهج والفترة الزمنية لذلك.
التربية والتعليم معارف ومعلومات يكتسبها التلميذ تعده لمرحلة التعليم الجامعي وتحدد ميوله واهتماماته وشغفه بهذا العلم أو ذاك. وكل مقرر في التعليم الأساسي يتم إعداده بحيث يتضمن هدفين أساسيين: اكتساب معارف وتربية وجدانية من خلال حسن اختيار مواضيع المقرر. وعلى سبيل المثال: مقرر اللغة العربية يشمل القراءة والتعبير والشعر والإملاء، ويهدف إلى غاية بعيدة وهي أن يكتسب التلميذ في نهاية المطاف البلاغة في الحديث والتعبير والقدرة على فهم معاني الموضوعات التي يقرؤها، كما يهدف إلى تفجير الطاقات الإبداعية واستكشافها وتنميتها لكي يكون لدينا أدباء شعراء وروائيون ونقاد وكتاب في كل فروع الأدب.
وللوصول إلى ذلك ينبغي أن يتضمن المقرر موضوعات تحتوي على قيمة فنية وإبداعية فيها قدر كبير من العناصر الأدبية، فالقصيدة العمودية تحتوي على بحر شعري وتفعيلة بالنسبة للشعر الحديث، وداخل القصيدة تجد صوراً فنية وجزالة الألفاظ وطباقاً وتشبيهات ومجازات وجناساً وغيرها من العناصر الفنية. واختيار الموضوعات ينبغي أن يراعي هذا الأمر في النصوص المختارة، طبعاً بالإضافة إلى أهمية روح النص وسيرة كاتبه، بحيث يكون قدوة، فعندما تختار نصاً للشاعر عبدالله البردوني مثلاً وتعلم التلاميذ سيرته، فإن سيرته بحد ذاتها رحلة كفاح يتعلم منها التلميذ ألا مستحيلات أمام الإنسان الذي يمتلك إرادة، وإعاقة البردوني لم تقف حائلاً دون أن يغدو شاعراً كبيراً له حضوره في الفضاء الشعري العربي المعاصر، وهذا يدخل ضمن إطار التربية الوجدانية للتلاميذ واستنهاض إرادتهم.
طبعاً، أمر تحديد موضوعات المقررات الدراسية وكتابتها لها اختصاصيوها في كل مادة دراسية أو تعليمية، المهم أن تحدد لهم فلسفة التعليم المطلوب، وفق رؤية يتم طرحها من خلال مؤتمر تربوي يخرج بمخرجات ويحدد آليات وخطوات تغيير المناهج، تشكل لها فرق من اختصاصيين في كل فرع علمي لكي يضطلعوا بمهمة التغيير، ولجنة أو حتى مركز الأبحاث التربوي للإشراف على العملية وفق الخطة الموضوعة من قبل المؤتمر التربوي.
* نقلا عن : لا ميديا