بين صوت الغارات القاتلة فوق رؤوس المدنيين وصوت صراخ الجنود المهزومين على البرّ عند أبواب غزّة، مساحة تمتلىء بألف مشهد: بعضها مخزٍ، بعضها مفرح، وكلّها كاشف يوضح تموضع كلّ أحد في هذه الدنيا بين أحد المعسكرين: حق وباطل. هي معركة واضحة معيارها أخلاقي وإنساني أولًا.
منذ أن بدأت صور العدوان الوحشي على غزّة باحتلال شاشات الهواتف والتلفزيونات حول العالم، وفي كلّ المدن والبلاد أشخاص يحاولون إعلان تضامنهم مع أهل فلسطين ورفضهم للهمجية القاتلة التي يعبّر عنها الصهاينة، حتى أولئك الذين لا تربطنا بهم صلة دم أو رابطة ثقافية أو فكرية أو عقائدية، وأكثر من ذلك، حتى الذين ليس لديهم أي موقف سلبي عادة تجاه الكيان الصهيوني، خجلوا في لحظة إنسانية من هول ما يرتكب الكيان، فهرعوا للتعبير عن رفضهم لما يرتكب دفاعًا عن انسانيتهم أوّلًا. لم ينصر الكيان القاتل في هذه المعركة، أو يتجاهل ارتكاباته إلّا الأنظمة التي تشغّله وتلك التي يشغّلها: لذلك ليس غريبًا أن نرى دول الغرب تشجّعه أو دولًا عربية ترسل له العون، أو تفتتح مهرجانات فنية خلال العدوان الذي تضج بأحداثه الدنيا.
هذا المشهد المتناقض الذي يجري على الأرض ينقسم بين بعيد غريب يتضامن وقريب شقيق يحتفي، وينبغي أن يكون حين تنتهي الحرب معيارًا لدينا في تقييم إنسانية الآخرين، وليس فقط خياراتهم السياسية وتبعاتها.
في مشهد آخر، ضجّت به الأرض أيضًا، ولا سيّما إعلاميًا وعلى منصّات التواصل: فيديو قصير جدًا، السيد حسن والراية، كان كفيلًا بأن يشغل الإعلام العالمي ولا سيّما الصهيوني. قرأوا في الثواني القليلة ألف رسالة رعب، وقبل أن يبدأوا بالتقاط أنفاسهم ليلًا صدر الخبر اليقين الذي يعادل بالنسبة إليهم الإعلان عن يوم القيامة في "إسرائيل": إطلالة للسيد نصر الله يوم الجمعة القادم. بدا وكأن كلّ الدنيا شهقت في لحظة الإعلان، وانقسمت بين أهل الحقّ والحبّ الذين أثلج الخبر صدر شوقهم للسيّد، وأهل الباطل والحقد الذي بدأوا يتحسّسون رؤوس خياراتهم وقراراتهم، ويترقبون، ترقّب من مسّه جزعٌ بين رعب مضى ورعب قادم.
أما المشهد الثالث، فيكمن في الإعلام، حيث تخوض الماكينة الإعلامية المعادية، والناطقة بكل اللغات ولا سيّما العربية، حربًا موازية على أهل المقاومة عبر تعظيم القوّة الصهيونية المتهاوية والتخويف والتهويل وتغييب خسائر العدو عن الأخبار والاكتفاء بالبكائيات التي تصوّر أهل فلسطين وسائر المحور المقاوم وكأنهم مستسلمون بلا حول ولا قوّة، يتلقون الضربات ولا يردونها. وفي الحروب، يُعدّ هذا الفعل خيانة عظمى إذ يحاول التأثير على الناس عبر الترهيب والترويع، وزرع الخوف في قلوبهم وحثّهم على الاستسلام والانهزامية، وهو أمر يحتاجه الصهاينة الآن أكثر من حاجتهم للسلاح المتفوق الذي يمدّهم به العالم، فقد باتوا يعلمون جيّدًا أن تفوّقهم في هذا المعيار ليس كافيًا أبدًا لتحقيق أي مكاسب تُذكر. هذا الإعلام الموظّف بشكل علني في خدمة الصهاينة يرتكب اليوم ما يعادل المجازر بشاعة، فمسعاه لقتل الروح المقاومة الموقنة بالنصر لا يقلّ إجرامًا عن قتل الأطفال في غزّة، أبدًا، بل هو يسعى إلى إسكات دمهم وطمره في تراب الهزيمة، عوض المطالبة بالثأر له.
أما في الجنوب، هنا عند شمال فلسطين، فالمشهد يُدرّس في كلّ محافل العسكر: مقاومة تفرض على العدو قواعدها، تحاصره، تصيبه في كلّ يوم بمئة مقتل ويتكتّم، مقاومة ترفع الشهداء بعزّة، على طريق القدس، مقاومة تنصر كلّ المستضعفين في الأرض بقيادة سيّد يشخص العالم كلّه نحو موعد إطلالته، وينتظر، وإنّا له منتظرون.
* نقلا عن :موقع العهد الإخباري