اليوم تَحِلُّ ذكرى استشهاد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي (رضوان الله عليه)، الشخصية الاستثنائية، الذي تحرك من جغرافيا غائبة عن معرفة الناس، من أسرة معروفٍ عنها أنها بيت من بيوت العلم والتدريس والفكر والطهارة والزُّهد والتواضع... فلم يكُن السيد القائد داعية من مُحيط برجوازي، ولا من أهداف سياسية لتجميع أصوات انتخابية، أي أن تحركه الصادق كان بإمكانيات صفرية، لو حسبنا الأمر بالطريقة التي نعتادها منطقياً في دُنيانا وزمننا هذا.
الشهيد القائد من أسرة ومن بيئة لا يستطيع أحد أن يزايد عليها، فما هي أموال الدنيا أمام أن يكون والده عابداً ربانياً كالمولى السيد الحُجَّة بدر الدين (رضوان الله عليه)؟! ومن هنا تشكلت شخصية الشهيد القائد وتكونت نظرته وقراءته وتفكيره واهتمامه بمحيطه وتوسعت آفاقه، وفي الوقت نفسه والفترة الزمنية القاسية التي واجه فيها فكر آل البيت حرباً ضروساً من قبل الحركة الوهابية، مما يعني أن بدايات الشهيد القائد كانت صعبة بما للكلمة من معنى، وخطرة بشكل شديد جداً.
رأى الشهيد القائد (رضوان الله عليه) في المجتمع الذي سطع فيه نجم حُسين البدر (رحمه الله) ملاذاً وقبلة للتعلم واستقاء الوعي وانتهال البصيرة نحو تحقيق التغيير، كما وجدوا فيه ضالتهم. خاطبهم بلهجتهم، وببساطة القول. ناقشهم كواحد منهم. لم يتعالَ عليهم بعلمه والحكمة والبصيرة التي منحهُ الله. استطاع بتواضع المُربِّين أن يجمع الصغير والكبير في حلقات تدريسية وتعليمية. لم يَكُن يرى في نفسهِ ذلك المتعلم والمثقف والمتكلم، بنظرة الاستعلاء ونفخة المغرورين. بساطته (رحمة الله) أجبرت قلوب كل من عرفه على حُبه والتعلق بهِ، نتيجة لشخصيته التي اتصفت بالتواضع، ما زادهُ قُرباً من الناس. بذل لهم حُبَّهُ والتفكير فيهم وتحمل همومهم ومشاركتهم معاناتهم، وكان يجتهد لمساعدتهم، لذلك فمن الطبيعي أن كل من عرف الشهيد القائد تعلق قلبهُ به حُباً له.
حَكى لي أحد المجاهدين السابقين أن واحدا ممن كانوا في محاضرات الشهيد القائد (رحمه الله) سأل الشهيد القائد، عندما بدأ الناس "يصرخون"، قائلاً: يا سيدي حسين، احنا في هذه الجبال في آخر الدنيا، كيف عتوصل أصوات صرختنا إلى أمريكا و"إسرائيل"؟!
فابتسم الشهيد القائد وردَّ بكل تواضع: مثلما عرف الأجنبي بحاجتك إلى مراية في هذه العلبة، وصنع لك علبة بمراية، فسيعرف وتصله صرختك.
يغيب عن الإعلام ضرورة توضيح وإيصال الصورة المطلوبة للمجتمع عن الشهيد القائد الإنسان (رضوان الله عليه)، وكيف أثر اجتماعياً بتعاملهِ وسيرتهِ قبل علمه وبصيرتهِ التي غيرت كل شيء، وهو موجود في محاضراته وملازمه، لكن هذا غير كافٍ أن يتم معرفته كقائد ورجل أسس لهذه الثورة التي تجاوزت كل التوقعات.
فهل المحاضرات والعلم منفرداً هو وراء كل ما حصل في البدايات في أوساط المجتمع حينها؟! مستحيل، فقد كانت أمهات الكتب والمؤلفات وعمائم أهل العلم موجودة؛ ولكنها كانت بعيدة عن ميدان التحرك وساحة المواجهة قبل تحرك الشهيد القائد (رضوان الله عليه). السر يكمن في شخص السيد حسين (رضوان الله عليه)، كنموذج ومشروع حياة واقعي، وثورة فعلية عملية تنبض في أوساطهم، ووجد الأحرار السابقون في اتباعهِ والسير تحت رايته وقيادته السبيل للخلاص. هذا ما يفتقدهُ الكثير من القيادات المنتفخة اليوم، في كل مكان، تجاه علاقتهم مع الناس، الذين لا يرون إلا وجوهاً عابسة تدير لهم ظهرها، لا تبالي ولا تأسف ولا تهتم، تتعالى وتتجبر تسخط وتشخط، وتعاير وتُعيب وتستخف، ولا تتردد في توجيه الإهانات وصرف الاتهامات، وتدعي الأحقية بفرض واقعها غصباً، بِكبر وعنجهية، بزعم السبق والأقدمية، وتمن على الناس وعلى الله بتضحيات ماضية، وكأن ازدراءهم ثمن مستحق يتوجب القبول به والصبر عليه! {يمنُّون عليكَ أن أسلموا قل لا تمنُّوا عليَّ إسلامكم، بل اللهُ يمُنُّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين} (الحجرات، الآية 17).
نقيض مخيف وتضاد مُجحف! كيف كان الشهيد القائد (رضوان الله عليه) حينها تجاه الناس، ومن بعده سيد الثورة (يحفظه الله) اليوم، والذي يمثل بقعة الضوء التي كانت ولا تزال تطمئن قلوب الشعب وتمنحهم بريقاً من الأمل، والقائد الصادق الذي يرى فيه الناس ضالتهم وحاجتهم لنيل وعيش الأمل المنظور والتغيير المستحق للمستقبل المأمول تَحققهُ ويُعاش واقعاً في القريب إن شاء الله من قائد وقدوة لا يختلف عليه اليوم أحد من الغالبية العُظمى من الشعب!
الغُصة التي تُعكر الوضع الداخلي المرتبط بحياة الناس تتفاقم كل لحظة، بفشل مُزرٍ ومتفشٍّ في حلقة الوصل الموجودة بين الشعب والسيد القائد، والتي تموضعت ونصبت نفسها فرضاً بين الشعب وسيد الثورة (يحفظه الله). هي للأسف دون مستوى المسؤولية، بل إن دورها وعملها خلاف ما كان يُنتظر منها، وتحولت إلى سبب في إعياء جسد الأمة وتداعي الأوجاع والآلام على الواقع والساحة الداخلية، وسوء يتراكم يُوجبُ استبدالها، بعد ثبوت فساد سلوكها وأدائها لوظيفتها وعملها.
سيأتي اليوم القريب الذي ستستقر فيه الأوضاع وتزول المخاوف الأمنية، وسيجد الناس السيد عبدالملك (يحفظه الله) في أوساطهم يسمع منهم ويلتقي المستضعفين بدون حُجّاب ولا وسطاء ولا مفسرين ومؤولين، حين تتساقط أغلال المتسلطين وتكسر أقفالهم التي أوصدت الأبواب في وجوهنا ومنعت أصواتنا من الوصول إلى قائد الثورة، وسيكون الاقتصاص لكل مقهور ممن قهره، ويُنتصف للمغلوب ممن غلبه، وينتصر لمن ظُلم ممن ظلمهُ، وستُجبر خواطر الصابرين، وليس ذلك على الله بعسير، ولعلهُ عند الله قريب لا بعيد إن شاء الله.
سيكون إنصافاً في كل عتمة ظلام سببها الظالمون. هناك رجال من القيادات العليا، رفقاء سيد الثورة، صادقون وشرفاء أحرار، يتميزون بالطيبة والتواضع، أشداء على الزائغين، رُحماء بالناس؛ لكنهم خارج "المعادلة" المزرية، لنأيهم بأنفسهم عن أن يكونوا جزءاً من السقوط الحادث اليوم، ولا يُستجاب لهم ولا يُسمعُ لصوتهم، فقد تكالبت غَلبة العصبية الأموية والنزعة العباسية وتكتلت لوبيات السلطوية المستجدة بحُللها المختلفة اليوم، والأفعال نفسها رغم اختلاف الزمان.
هل كانت آخر كلمات سيد الثورة (يحفظه الله) في خطاب الخميس الماضي: "الوفاء ما تغير، عهد الأحرار باق"، مجرد ترديد لزامل يحفظه الكثير؟! لا، والله، إنها رسالة منهُ إلى شعبه، الذي يبادلهُ المحبة والوفاء، وأنه على عهدهِ ووعده، وأراد التأكيد عليها مباشرة وعلى الهواء.
* نقلا عن : لا ميديا