لقد وُجد عبر التاريخ رجال دين يحللون الحرام، ويصبغون عليه صبغة قدسية، ولعل أول هيئة ترفيه في العالم الإسلامي كانت في زمن هارون الرشيد.
روى الطبري في تاريخه، أن الوزير جعفر البرمكي نادم هارون الرشيد (أي شربا الخمر معًا) ذات ليلة، فقال الرشيد: يا جعفر بلغني أنك اشتريت جارية، ولي مدة أطلبها فإنها على غاية الجمال وقلبي يحبها في اشتعال، فبعها أو هبها لي.
فقال جعفر: لا أبيعها يا أمير المؤمنين ولا أهبها.
فقال الرشيد: زوجتي زبيدة طالق ثلاثًا إن لم تبعها أو تهبها لي.
قال جعفر: زوجتي طالق ثلاثًا إن بعتها لك.
ثم أفاقا من نشوتهما الخمرية، وعلما أنهما وقعا في أمر عظيم، وعجزا عن تدبير الحيلة، فقال هارون الرشيد: هذه وقعة ليس لها غير أبي يوسف، وأبو يوسف هو العالم الفقيه تلميذ الإمام أبي حنيفة النعمان ومدوّن فقهه.
فطلبوه وكان ذلك نصف الليل، فلما جاءه الرسول، قام فزعًا وقال في نفسه: ما طلبت في هذا الوقت إلا لأمر حدث في الإسلام، ثم خرج مسرعًا وركب بغلته.
فلما دخل قال له هارون الرشيد: ما طلبناك في هذا الوقت، إلا لأمر مهم هو كذا وكذا، وقد عجزنا في تدبير الحيلة.
فقال أبو يوسف: يا أمير المؤمنين إن هذا الأمر أسهل ما يكون ثم قال: يا جعفر بع لأمير المؤمنين نصفها وهب له نصفها وتبرآن يمينكما بذلك، فسر أمير المؤمنين بذلك وفعلا ما أمرهما به.
ثم قال هارون الرشيد: أحضروا الجارية في هذا الوقت، فإني شديد الشوق إليها فأحضروها.
وقال للقاضي أبي يوسف أريد وطأها في هذا الوقت، فإني لا أطيق الصبر عنها إلى مضي مدة الاستبراء وما الحيلة في ذلك؟
فقال أبو يوسف: ائتوني بمملوك من مماليك أمير المؤمنين، الذي لم يجر عليه العتق، فأحضروا المملوك فقال أبو يوسف: أتأذن لي أن أزوجها منه، ثم يطلقها قبل الدخول فيحل وطؤها في هذا الوقت من غير استبراء؟
فأعجب هارون الرشيد ذلك أكثر من الأول. فلما حضر المملوك، قال الخليفة للقاضي: أذنت لك في العقد فأوجب القاضي النكاح ثم قبله المملوك.
وبعد ذلك قال له القاضي: طلقها ولك مائة دينار فقال المملوك: لا أفعل ولم يزل يزيده وهو يمتنع إلى أن عرض عليه ألف دينار ثم قال للقاضي: هل الطلاق بيدي أم بيد أمير المؤمنين؟ قال: بيدك قال: والله لا أفعل أبدًا فاشتد غضب أمير المؤمنين وقال ما الحيلة يا أبا يوسف؟
قال القاضي أبو يوسف: يا أمير المؤمنين لا تجزع، فإن الأمر هين، ملّك هذا المملوك للجارية قال: ملكته لها، قال القاضي: قولي قبلت، فقالت: قبلت، فقال القاضي حكمت بينهما بالتفريق، لأنه دخل في ملكها فانفسخ النكاح.
فقام أمير المؤمنين على قدميه، وقال: مثلك من يكون قاضيًا في زماني، واستدعى بأطباق الذهب فأفرغت بين يديه، وقال للقاضي: هل معك شيء تضعه فيه؟ قال نعم ووضع الذهب في مخلاة بغلته، وانصرف إلى بيته.
فلما أصبح الصباح، قال لأصحابه: لا طريق إلى الدين والدنيا أسهل وأقرب من طريق العلم، فإني أعطيت هذا المال العظيم في مسألتين أو ثلاث.
نجد في تلك الحكاية فقهًا سياسيًّا ترفيهيًّا، يدلّ على مدى فراغ الخليفة للهو والعبث والبحث عن إشباع شهوته، ومدى ثراء الدولة في عصر هارون الرشيد، فقد كانت الدولة عالمية عظمى بمقاييس الملوك والسلاطين والطغاة، ولكنها لا تمت إلى الدين بصلة، إلا بقدر إضفاء شرعية القداسة ومنصب ظل الله في الأرض.
ولنا في تلك الحكاية عبرة ورؤية، فقد شرب الوزير جعفر الخمر مع الخليفة هارون، وطلّق كلّ منهما زوجته أثناء السُّكر، من أجل جارية جميلة أراد الخليفة أن يشتريها ويطأها في الحال بشبق شهواني دون قضاء مدة العدة، هكذا دون حياء، أما رجل الدين الشيخ أبو يوسف، فلم يستنكر منهما شرب الخمر، ولا يمين الطلاق في حال السُّكر.
لم يستنكر القاضي أبو يوسف شربهم للخمر وخلافهم الترفيهي الدنيوي من أجل امرأة، نراها حرة أو كانت حرة في بلادها قبل أن يسبيها أحد فصارت جارية يجري عليها ما يجري على الإماء، ويرونها جميعًا جارية مستباحة الجسد، لا يحميها خليفة أو وزير أو قاض أو رجل دين، ويزوجونها ثم يطلقونها بلعبة فقهية من مملوك، نراه هو الآخر حرًّا، ويرونه عبدًا، لا حرمة لفكره أو روحه أو ضميره، لا يحترمه خليفة أو وزير أو قاض.
أسهل طريق للمال يكون عن طريق العلم!
والقاضي أبو يوسف، المفترض أنه عالم جليل، ولكنه أعطى أو باع مسألتين فقهيتين أو ثلاثا بما ملأ المخلة بأطباق الذهب، وقال مفتخرًا لأصحابه في الصباح: إن أسهل الطريق للمال يكون عن طريق العلم. نعم هو أسهل طريق، ولكنه أخس وسيلة، خاصة أن أستاذ أبي يوسف ومعلمه هو أبو حنيفة النعمان، الذي مات بعد الجلد بالسياط داخل سجن الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، لأنه رفض منصب قاضي القضاة، بما فيه من نعيم وأبهة وقداسة، لأنه يعلم تمامًا أن العلم خير من المال، لأن الإنسان يحرس المال، أما العلم فهو الذي يحرس الإنسان، كما قال الإمام علي بن أبي طالب (ع)، وقال أيضًا عن أمثال هؤلاء الشيوخ إنهم «يتعلمون لغير العمل ويتفقهون لغير الله ويعملون للدنيا بآمال أهل الآخرة»، وهو قول نبوي علوي لم يفهمه السلاطين ولا كثير من رجال الدين.