قبلَ أقلَّ من شهر، دخلَت اليمنُ في تصديها للعدوان السعودي الأمريكي، في مرحلةِ الردع الأولى بغارات للطيران المسيّر على حقل الشيبة النفطي شرق السعودية، وحينها بدأت معادلةٌ جديدةٌ أفصح عنها السيدُ عبدُالملك الحوثي في خطابه بنفس اليوم، واضعاً أمنَ اليمن مقابلَ أمنِ السعودية، بقوله: “كان من الممكن للسعودية أن تحظى بالأمن والاستقرار مقابل أن يحصلَ شعبُنا اليمنيُّ على الأمن والاستقرار”.
اليومَ تأتي العمليةُ النوعية لسلاح الجو المسيّر اليمني على حقل بقيق وحقل خريص النفطيين، لتؤكّـدَ أَيْـضاً على هذه المعادلة التي يتجاهلها النظامُ السعوديُّ، وبعد اليوم لم يعد أمنُ السعودية بيدها ولا حتى بيد الأمريكيين، بل أصبح حِكراً على اليمن، ومتى استتبّ الأمنُ للشعب اليمني، وتوقف العدوّ عن جرائمه وحصاره البري والبحري والجوي، فيمكن حينها أن ينعَمَ آلُ سعود بالأمن.
العملياتُ ضدَّ حقول النفط السعودية كانت مؤجّلةً بانتظار “التعقُّل” السعودي، فيما كانت قيادةُ القوات المسلحة اليمنية تدرك أنَّ برميلَ النفط السعودي يمكن إحراقُه بـ “عُودِ ثقابٍ” إن صحّ التعبيرُ، في وقت لوحِظَ أن مئاتِ الصواريخ البالستية التي دكّت مواقعَ عسكريةً في الرياض وجدة وغيرهما من المدن السعودية، كانت قادرةً على استهداف الحقول النفطية منذُ وقتٍ مبكر، إلاّ أنها حملَت رسائلَ مهمةً وتركت مساحةً للرياض؛ لإعادة حساباتها.
ومع انطلاق عملية الردع الأولى الشهر الماضي (أغسطس 2019)، وانطلاق عملية الردع الثانية اليوم، يبدو أنه لم يعد هناك الكثيرُ من الخيارات لدى الرياض للرهان على عامل الوقت.
واستهدافُ الحقول النفطية ليس استهدافاً للشعب الشقيق في المملكة، فهو شعبٌ مغلوبٌ على أمره ولا يصلُه من خيرات وثروات البلاد إلاّ “الفُتاتُ” مما يسمح به آلُ سعود، بينما تذهب خيراتُ نفطهم إلى خزائنِ الولايات المتحدة، وتجّارِ السلاح فيها، إذن هو استهداف لـ “الضرع” الذي “يحلبه” ترمب؛ ولهذا سمعنا في بيانِ القوات المسلحة اليمنية عن أنها عمليةٌ استخباراتيةٌ مسنودة بتعاون من أبناء المنطقة الشرفاء والذي ساهم في نجاح هذه العمليات.
ومن الواضح هنا أنَّ متحدثَ الجيش اليمني ما كان ليذكرَ هذا التعاونَ ولا يشيرَ إليه إلّا بعد التأكّـد من أنهم في مأمنٍ من بطش آل سعود، وهذا أَيْـضاً يحملُ دلالاتٍ كبيرةً على قوة الاستخبارات اليمنية، ما يعني أنَّ تفاصيلَ الأمن في مملكة آل سعود لم يعد في صالحهم بشكل مطلق، وهذا يؤمّن المستوى المطلوب لتثبيت معادلة الأمن مقابل الأمن، لا سيما مع زيادة الناقمين على النظام السعودي، وانهيار هيبة الأجهزة الأمنية، والهوة التي تتسع يوماً بعد يوم في ثقة الشعب بتوفير الأمن للمواطنين، وتفشي الجرائم التي لم تكن بهذا الشكل، خَاصَّةً جرائمَ السطو على البنوك والمصارف في وضح النهار، والتي تزايدت في الفترة الأخيرة بشكل ملفت، إلى جانب جرائمَ أُخرى، وهو الأمرُ الذي يعكس الضعف في بنية الأجهزة الأمنية السعودية حالياً.
ولا ننسى أنَّ مشاهدَ الحرائق التي اندلعت في حقل بقيق لم تكن لتخرج بهذا الشكل على وسائل التواصل الاجتماعي في عمليات أُخرى؛ نظراً لتشديد النظام السعودي على منع خروج مثل هذه المشاهد والتكتم على الإنجازات العسكرية اليمنية.
الجديرُ ذكره هنا، أنَّ الولاياتِ المتحدة قد قبضت مئاتِ المليارات من الدولارات من الرياض مقابل الحماية المزعومة، وسمعنا ترمب مراراً وهو يتحدث عن الحماية التي يوفرها لعروش أمراء الخليج عموماً وآل سعود خصوصاً، لكن مؤخّراً رأينا كيف تحدّث رئيسُ هيئة الأركان الأمريكية المشتركة الجنرال “جوزيف دانفورد” حول حماية شركاء بلاده في المنطقة، بما يتناقضُ مع تصريحات ترمب، وبما يتعارض مع ما أكّـده في اجتماع الندوة الفكرية -التابعة لمجلس العلاقات الخارجية الأمريكية- في 6 أيلول/ سبتمبر الجاري، على أنه: “ليست لدينا قوة ردع لاعتراض هجمات على شركائنا في المنطقة، يمكنك أن ترى السعوديةَ والإمارات تعرضتا مؤخّراً لاعتداءات”.
كلُّ هذا يؤكّـد أنّ أمنَ السعودية لم يعد أبداً بيدها ولا حتى بيد واشنطن، وأنَّ عليها أن تسابقَ الزمن بمراجعةٍ كاملةٍ لسياستها تجاه اليمن، وتكفَّ عن الرهان على الولايات المتحدة، فأمنُ المنطقة يجب أن يكون حصراً بيد أبنائها، قبل أن ينتقلَ اليمنُ إلى مرحلة الردع الثالثة، والتي بالتأكيد ستكونُ أشدَّ وأنكى.