“مناطق اليمن تلك ما أقسى شدتها.. آهٍ من هذه اليمن ..وردها عشب أخضر الذاهب لا يأتي يا ترى ما السبب؟
إنها أغنية شعبية تُركية توثق الصمود اليماني والمجازر التي تعرض لها الغزاة العثمانيون في اليمن.. هذه الأرض التي لا يعود الذاهبون لغزوها. فحق عليها اسم مقبرة الأنضول، ومقبرة الغزاة.
عقبَ افتتاحِ قناة السويس في القرن الثامن عشر عادت أنظارُ الإمبراطورية العُثْمَـانية مجدّداً نحو اليمن، فدخلوا صنعاءَ مرَّةً ثانيةً سنة 1872م بحملة عسكرية جرارة بقيادة “مختار باشا”.
بعد سيطرة مختار باشا كان أول ما قام بهِ هو تصفية القوى التي تهدد السيطرة الاستعمارية آنذاك، فعمل على الحد من تأثير مشائخ القبائل، وحَصَرَ نشاطَ الأئمة في ممارسة الزعامة الدينية وترك التدخُّل في الشؤون السياسية، وأبرز القضايا السياسية في الفكر الزيدي هي مسألة وجوب الخروج على الحاكم الظالم.
شهدت البلاد في الفترة الاستعمارية العثمانية الثانية ارتفاعا هائلاً في الضرائب التي كان يجبيها العثمانيون، فساءت الأوضاع الاجتماعية وتفشى الجوع وشهدت البلاد عدة تمردات ثورية ضد السيطرة العثمانية قامت بها بعض القبائل اليمنية، منها ثورة الحدا، وثورة قبيلة خولان، وقبيلة أرحب، وقبيلة حاشد، وسرعان ما أخمد العثمانيون هذه التمردات التي لم تكن منظمة ولا موحدة.
مع اشتداد القمع والبطش الذي مارسه العثمانيون لم ينثن اليمنيون عن مواصَلة ثورتهم، حيث قامت ثورة يمنية جديدة ضد الاحْتلَال العثماني من (قفلة عذر) عام ١٨٩١م بقيادة الإمام محمد بن يحيى حميد الدين الذي استطاع محاصرة قوات الاحْتلَال العثماني داخل صنعاء، وكادت أن تقضي على الوجود العثماني، إلا أن هذه الثورة انتهت بتعزيز العثمانيين قواتهم بحملة جديدة فكت الحصار المطبق عليهم بقيادة (أحمد فيضي باشا).
لم يتراجع اليمنيون عن درب الثورة والحرية في مواجهة العثمانيين، فبعد وفاة الإمام محمد بن يحيى الملقب بالمنصور سنة ١٩٠٤م قام اليمنيون بهبة ثورية جديدة بقيادة الإمام يحيى بن المنصور مهدت هذه الثورة لإجراء مفاوضات مع المحتل انتهت بعقد صلح بين الجانبين العُثْمَـاني واليمني سنة 1906م منحت الإمام يحيى صلاحيات واسعة على المستوى المحلي، مع بقاء السيادة العثمانية.
قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى، وتحديدا في العام 1911م نهض الشعب اليمني بهبة ثورية جديدة بقيادة الإمام يحيى حميد الدين، انتهت هذه الهبة الثورية بتوقيع ما عرف بصلح دعان في ٩ أكتوبر ١٩١١م، وفي الفترة ما بين 1904ـ 1911م كانت خسائر العثمانيين عشرة آلاف جندي وخمسمائة ألف جنيه استرليني في العام الواحد.
في اتفاق صلح دعان استسلمت القوات البريطانية للأمام يحيى، وتركت له حكم الهضبة الشمالية، وتراجعت إلى المناطق الوسطى وتعز والساحل التهامي، فيما كانت المناطق الجنوبية خاضعة للهيمنة البريطانية.
وفي العام 1918م بعد انسحاب ما تبقى من القوات العثمانية إثر هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، تأسست المملكة المتوكلية اليمنية في الشطر الشمالي من الوطن كأول دولة وطنية عربية مستقلة، كما يحسب للملكة المتوكلية اليمنية أنها أول دولة أعادت الهوية اليمنية رسمياً لهذه القطعة الجغرافية من الجزيرة العربية.
لم تعترف اليمن المتوكلية بالمعاهدة البريطانية العثمانية التي رسمت الحدود الشطرية في العام 1915م، وبعد تصفية كامل النفوذ العثماني في العام 1918م سعت المملكة المتوكلية اليمنية إلى تحرير الجنوب اليمني المحتل، فتوجه الإمام يحيى جنوباً عام 1919م واقترب خمسين كيلو متراً من عدن، فشن البريطانيون حملة جوية استهدفت الجيش اليمني الملكي، فاضطر للانسحاب، ولم تتوقف محاولات المملكة المتوكلية اليمنية عن إعادة توحيد اليمن وتحريرها من الاستعمار البريطاني، وظل مثل هذا الحلم يراود اليمنيين، حتى اندلاع الثورة اليمنية الخالدة 26سبتمبر 1962م و14 اكتوبر 1963م، وهي ثورة واحدة مترابطة جسدت تطلعات اليمنيين القديمة الجديدة إلى التحرر الوطني والوحدة اليمنية والعدالة الاجتماعية وحكم الشعب.