عفاف محمد / لا ميديا -
من منا عاصر أحداث العدوان وما قبله بفترات ولا يعرف من يكون لطف القحوم؟!
لطف القحوم.. اسم حفر في الذاكرة وتخلد في الوجدان اليمني.. هو منشد ثوري ومجاهد صنديد، اشتهر في بداياته عند إنشاده زامل "ما نبالي ما نبالي".
صنعت هذه الهامة الجهادية المجد وسطرته بأشكال متعددة، كانت البيئة قد صنعت منه مجاهداً مغواراً، لم يلتحق بركب المسيرة الشريفة بإيعاز من أهل بيته أو أحد أقاربه، فلم يكن محيطه العائلي مشجعاً لهذه الفكرة، اختار لنفسه هذا الدرب لاعتقاده في نفسه بأنه الطريق الصواب.
كان التحاقه بالمسيرة الشريفة نابعاً من إدراكه الواقع وما يدور فيه، نابعاً من إحساسه بالمسؤولية تجاه دينه ووطنه، فقد كان ممن لهم نظرة ثاقبة، ويجيدون موازنة الأمور.. ولنعرف عنه أكثر نطوف في ربوعه الخضراء.
طفولته وصباه
كان لطف طفلاً لمَّاحاً شديد الذكاء، له صلة كبيرة بالطبيعة، يعشق صعود الجبال واللعب في السهول والوديان، كان كثيرا ما يدندن بصوته وهو في كل مكان، كنوع من ممارسة هوايته المفضلة. اتصف بالشجاعة منذ صغره، كان مقداماً جسوراً لا يخاف في الله لومة لائم، ما دام يشعر بأنه الحق ومعه، قضى نشأته الأولى مع أهله في عمران حيث مسقط رأسه غولة عجيب "قلعة القحوم"، ثم انتقل مع أهله إلى صعدة وعمره 4 سنوات، شب على الخصال الحميدة والشيم اليعربية الأصيلة من غيرة وشهامة وإباء، كان طبعه شديداً وعنيداً منذ طفولته، وكان كثير المشاكل مع أقرانه ممن يثيرون غضبه، وفي إحدى المرات حصل بينه وبين بعض الأولاد شجار وضرب عنيف، وما كان منه إلا أن أسال منهم الدماء، وهم كذلك، حتى أسعفه أهله لترقيع جرح بليغ في شفته العليا، كان معروفاً بإقدامه وشراسته تجاه ما يراه مستفزاً وغير صائب، قال عنه والده إنه كان يستيقظ مع خيوط أشعة الشمس الأولى، ويخرج للجبال والوديان، مستمتعاً بمغامرات يخوضها، ويعود منها منهكاً وقد اكتسب الكثير من الصلادة والقوة.
كان الشهيد لطف القحوم يهوى الرقصات الشعبية، كما يهوى الإنشاد، وكل ما هو متأصل عريق من الموروث الشعبي، وفتح أفقاً فسيحاً أمام الشعراء والمنشدين.
في ركب المسيرة القرآنية
كانت بداية انطلاقه في سبيل الله وهو لايزال في الصف الثاني الثانوي أيام الامتحانات النهائية، حيث ترك رقم جلوسه، وأرسله مع رسالة لوالدته، قال فيها بأنه قد باع نفسه من الله، والتحق بركب المسيرة القرآنية. كان أهله قبلها قد بحثوا عنه وأبلغوا الجهات الأمنية عن اختفائه. انطلق في سبيل الله وعشق الدفاع عن المسيرة الشريفة، التي كانت محاربة من كل حدب وصوب، وبكل ما آتاه الله من قوى دافع عنها باستماتة، خاض غمار المواجهة منذ التحاقه بالمسيرة، كان قلبه قد تعلق بالجهاد تعلقاً جماً، فارق على إثره الأهل والديار، هجرهم لأشهر عديدة لم تكن تتخللها سوى زيارات معدودة، وغاب عن أهله فترة تجاوزت السنتين، ثم ذهب لوالدته وطلب منها مبلغ 50 ألف ريال ليتزوج، وكان هذا المبلغ ما يسمى "شرط العروس" بموجب قرار من السيد سلام الله عليه، لتخفيف تكاليف الزواج على المجاهدين، وكان مهر عروسه التي اختارها من أسرة مجاهدة هو 50 ألفاً وبندقاً و"جعبة"، ذهب بعروسه إلى دار أهله، وبعد ذلك بمدة يسيرة انطلق للجبهة، لم يفضل الراحة على الجهاد، أطلق العنان لنفسه وطاف الخبوت والفيافي والقفار، كان له في كل جبهة بصمة، باسل ببندقه بسال الأبطال، وكان يمتلك سلاحاً صوتياً أرهب العدو، كونه حاز على ميزات عالية في طبقات صوته ذات الدقة وبليغة الأثر، كانت الكلمات تنبثق من حنجرته ممزوجة بحماسه وعنفوانه اليماني الأصيل الذي يتغلغل للأعماق، وصوته يعد سلاحاً للمجاهدين يشعل فتيل حماسهم واتقادهم، فكم ترنموا بصوته وهو يزومل لهم فوق طقم، أو من على تبة، أو في وسط المتاريس.
حضور دائم في الجبهات
لم يغب حضور الشهيد لطف القحوم، في الجبهات حتى اللحظة، فزوامله الحماسية والشعبية أصبحت حاجة ملحة في أنفس المجاهدين، لا يستغنون عنها كوقود محرك للهمم.
لم يكن الشهيد لطف يوماً يعبأ بمباهج الحياة وكل ملذاتها، حيث حاول والده جاهداً أن يثنيه عن الجهاد قبل أن يهتدي بنور المسيرة الشريفة، واشترى له دشاً (طبقاً فضائياً) كي يتابع القنوات ويعزف عن الذهاب، لكن محاولته فشلت، وكذلك اشترى له قاطرة كي يعمل عليها، ولكن الشهيد لطف لم يأبه لها ولا للعمل من خلالها، حتى إن والده قال بأن ابنه لم يكن يهتم حتى بالتلفونات، كان كثيراً ما يضيع تلفوناته، فلم يكن شعوره وإحساسه منخرطاً في غير الحياة الجهادية البعيدة عن التطور والتكنولوجيا الحديثة والأجهزة التي يحلم باقتنائها شباب هذا الجيل.
كان لطف القحوم من الاستبسال بحيث يواجه العدو في الصفوف الأولى في ساحات النزال، فلم يكن يوماً جباناً أو متخاذلاً، أو ممن يمن بعطائه ويبحث عن وقت للراحة، كانت نفسه العصية الأبية تترجم الحمية والغيرة والعنفوان اليماني، في جهاده المستميت، وحرصه على أن ينتشر نور المسيرة القرآنية، ويعرف الناس الحق من الباطل.
عرف لطف القحوم من لم يعرفه في ساح الوغى، من خلال زامله "ما نبالي" الذي كان من كلمات شاعر المسيرة الشهيد عبدالمحسن النمري، الذي كانت أشعاره تنول من الأنفس المنال العظيم، ومن بعد أن حدث العدوان الغاشم انتشرت أصداء صوته، وكانت زوامله مواكبة للأحداث، عشقها الجمهور، وفيها سخر من العدو بشدة، وضخ كل معاني الإيمان والتحدي والشموخ والصمود، وكان مثل أشد شامخ يزأر.
وقد تنقل الشهيد في دروب الحياة عبر محطات جهادية كثيرة، وكان استعداده الفطري السليم هو ما يحركه للجهاد في سبيل الله بكل ما يملك، وبالرغم من إعفائه من الجهاد كون صوته يحدث أثراً عظيماً وجلبة في محيط العدو، ويعد جبهة متكاملة، لكنه أبى إلا أن يسوح في جبهات الشرف، وقال رداً على سماحة السيد عبدالملك الذي أصدر توجيهاً له بالبقاء في بيته، والاكتفاء بجهاده الفني العظيم، ومبرراً مواصلته درب الجهاد، قال هذه الكلمات في أحد زوامله الشهيرة: "الشهادة لي شرف والموت غاية.. سيدي عبدالملك عفواً دمايا"... إلى آخر هذه الكلمات التي نبعت من إحساس صادق.
إرث جهادي وفني
ترك الشهيد لطف القحوم، مواقف جهادية عظيمة، وخلَّف إرثاً فنياً عظيماً بصوته الجبلي الذي لايزال صداه يتردد في أذهان المجاهدين، ويعزز فيهم القيم الجهادية الراسخة.
كما أعاد الحضور والهيبة للزامل اليمني الذي كان قد غاب حسه عن المجتمع اليمني بشكل كبير، فأعاد له حضوره المجتمعي الطاغي، وكما قال الأديب والشاعر حسن المرتضى في إحدى دراساته عن الشعر والزامل: "تغاصن من شجرة الشهيد الشاعر عبدالمحسن النمري والشهيد لطف القحوم آلاف من شعراء الزامل، ومنهم من أسس مدارس جديدة فيه، وآلاف من المزوملين والملحنين، وصولاً إلى ذروة الزامل اليمني وأسطورته عيسى الليث".
ومن أهم أعماله التي احتلت ملكات النفوس: "جينا على منهج القرآن، يا جند ربي، أشري يا هذه الدنيا جوازي، حان اللقاء، الشهادة لي شرف، توكلنا على الله، يا شعب سجل الملحمة الكبرى، يحرم علينا العيش، يا جريح الحرب، يا مران، الصبر يا قلبي، دق التحالف، يالله يا منان، أعظم كرامة للشهيد".. وغيرها الكثير التي واكب بها أحداث العدوان، وكان قبلها يؤدي أناشيد مختلفة في كل المناسبات، ويؤذن بصوته الشجي، ويتقن زفات الأعراس، ويسبح في ليالي رمضان.
وعن بدايته مع الإنشاد تقول والدة لطف القحوم: "بانت أمارات وقدرات ابني الإنشادية منذ صغره، حين كان ينشد بأعلى صوته معظم أوقاته، وعندما كان في سن ابنه جبريل، أي في سن الـ10 أو الـ11، أنشد في عرس أحد الأقارب، ولقي تشجيعاً من الجميع، ثم أنشد في عرس أخيه، وبعدها كان ينشد في كل عرس يذهب إليه، حتى أحب الجميع صوته، ومن حينها ظل يمارس الإنشاد والزوامل".
قال لي بعض الناس: لقد سحره الحوثي!
وتروي والدة الشهيد البطل عن حياته الجهادية بالقول: "أول ما التحق ابني بالمسيرة القرآنية لم نكن حينها نؤمن بمعتقداتها.. كنت أخاف عليه، وأسمع كلام الناس عندما يقولون لي لقد سحره الحوثي!". وتستطرد: "كنت أفتش جيوبه عسى أن أحصل على شيء يفيد بأنه مسحور بالحوثيين، ولكن مع مرور الوقت عرفنا المسيرة، واستعقدنا بها، واهتدينا بهدي ابني سلام الله عليه".
وتضيف: "ابني تربى تربية صالحة، ولذلك صار إنساناً مؤمناً متقياً الله ومجاهداً في سبيله، ولقد عانينا الكثير منذ التحاقه بالمسيرة القرآنية، أيام الحروب الأولى، وتعرضنا لضغوط وقهر وظلم من جيش الحكومة آنذاك، وغاب ابني لطف لشهور عديدة، وكنا نتعرض في البيت للهجوم المفاجئ في أوقات متأخرة من الليل للتفتيش عن ابني لطف، ولم يضعوا حينها حرمة لمنزل فيه نساء وأطفال، وتكرر ذلك أكثر من مرة، كما أن النظام الحاكم آنذاك حدد مبلغاً مالياً لمن يسلم ولدي للسلطة، كان لطف ممن جاهروا بالصرخة وطبعوا الشعار في كل مكان، جرح في الحرب السادسة بمعدل شيكي في قدمه، وتم علاجه في منطقة الحمزات، تنقل من العند إلى بني معاذ إلى المقاش ونقعة وأماكن عديدة، وشارك أيضاً في الحروب التي قامت بعد الحرب السادسة مثل حرب كتاف وغيرها، وكان له أدوار جهادية عظيمة، ولم يهنأ أو يستقر في حياته العائلية، ولم يكن متواجداً أثناء ولادة كل أبنائه عدا ذو الفقار، الذي رحل بعد ولادته بثلاثة أيام، وكان من أقرب رفقاء دربه إسماعيل حجر، وأصدقاؤه الدائمون عبدالله حيدرة، وعبدالله الطالبي، وعلي حطبة".
انفجرت قنبلة يدوية في يده
وتحكي والدة الشهيد لطف عن حادثة تعرض لها ابنها بالقول: "في إحدى المرات كان هو ومجموعة من زملائه بعد الحروب الـ6 في مواجهة مع جنود رموهم حينها بقنبلة يدوية أمسكها الشهيد لطف وانفجرت بيده وهو يريد إعادتها للعدو. وكانت طبلتا أذنيه قد تمزقتا إثر قذيفة دبابة أثناء مواجهة له ورجل مسن مع أفراد جيش النظام السابق، وكان الرجل المسن والشهيد لطف يحتميان خلف الحجارة من ضرب الدبابة ويواجهانها بالبندق، وبعد أن فقد السمع بسبب القذائف قال لهذا الرجل المسن، الذي ضعف بصره: أنت عليك تسمع بأذنيك وأنا أرى بعيني، وكل واحد ينبه الآخر".
وتضيف: "كان ابني كثير الحديث عن الشهادة وفضلها، ويرجوها باستمرار، وقد كان قبل العدوان ممن شاركوا في المسيرات والتظاهرات، وممن صدحوا بالحق، كان ضمن من اقتحموا الفرقة، وفي إحدى المظاهرات رشوهم بالغاز، ولكنه مثل الأسد صعد للدبابة التي يتم الرش منها دون تردد، وواجه من عليها".
تعرض لمحاولتي اغتيال
يطول الحديث عن هذا الشهيد العظيم، ومواقفه البطولية لا تعد ولا تحصى، وحسبه أنه سكن القلوب بأخلاقه وصوته ومواقفه والكلمات الملتهبة الحماسية التي كان يتفوه بها بثقة وإيمان، وتتفجر براكين تحرق العدو.
سعى لطف جاهداً لنيل الشهادة، وكانت زوجته عندما تناشده أن يبقى مع أولاده فترة أطول يرد عليها أنتِ مجاهدة وتعرفين فضل الجهاد والشهادة، هل تريدين أن تحرميني الجنة؟!
كانت زوجته قد أخذت له صورة في آخر زيارة له بطلب منه، وقال لها إذا استشهدت انشريها وإلا فلا، وكذلك زاملا "أشري يا هذه الدنيا جوازي" و"كم من محنك في جبل هيلان"، كان قد سجلهما قبل ذهابه للجبهة وتم إخراجهما للعلن بعد استشهاده.
تعرض الشهيد لطف القحوم لمحاولتي اغتيال، إحداهما في صعدة من بعض أبناء القبائل، وتم سجنه في قحزة يوماً واحداً، والمحاولة الأخرى في سوق القات بالجراف.
قصة استشهاده
قبيل استشهاده كان الشهيد لطف القحوم قد سافر إلى 3 دول في مراحل متباعدة للعلاج، وهي عُمان والأردن وإيران. ويتحدث والد الشهيد لطف عن واقعة استشهاد ابنه بالقول: "قررنا أن نذهب أنا وولدي لطف إلى جبهة صرواح، وبينما كنا في طريقنا قلت له: لن أتركك سأذهب معك، فرد عليّ: ابشر. ومضينا في طريقنا حتى نزلنا من فوق الطقم وقام هو بالتحرك مع رفاقه نحو جبل هيلان، فقررت اللحاق بهم، وبينما كنت أمشي خلفهم، التفت إليّ ابني لطف وقال لي: إلى أين ذاهب، قلت له: معك، هكذا اتفقنا، قال لي الشهيد: كيف نذهب الاثنين ومن يرعى الأولاد؟! وعدت مع الطقم إلى صنعاء، ومضى هو ورفاقه إلى جبل هيلان، وما هي إلَّا أيام حتى تلقينا نبأ استشهاده، والحمد لله الذي اصطفى ابني لطف شهيدا في سبيل الله والوطن".
نال الشهيد لطف القحوم ما تمناه، وارتقى إلى مرتبة الصديقين والأنبياء، استشهد في سبيل الدفاع عن أرضه ووطنه.
كانت زوجته قبل استشهاده قد حلمت أنه عريس، وعندما علمت بخبر استشهاده قالت: "الله يفقدك عقلك وأهلك يا سلمان مثلما أفقدتني أبو عيالي".
وبعد استشهاده، استأذن الأطباء الأردنيون الذين عولج لديهم في الأردن، أن يستخدموا الأشعة التي تبين الشظايا، كي يدرسوا الطلاب على ضوئها، وكانوا حينها مستغربين كيف أنه يستبسل في ميادين القتال وفيه كل تلك الشظايا، واستغربوا من تلك القوة في جسده وقدرته على التحمل.
وفاز لطف القحوم بالشهادة التي ترسخت مفاهيمها في ذهنه واحتلت كل خلجة فيه وسكنت فؤاده، فمنحه الله وساماً إلهياً يستحقه لأنه ممن يستحقون العيش الدائم والرزق غير المنقطع.
وصدق القائل جل علاه: "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون".