هذه القصيدة الجيمية أعجبتني لعدة أسباب خاصة، منها أني من عشاق حرف الجيم، وقافية الجيم هي قافية لأحب قصائد ديواني الأول "مقام العروج". ولأن عناوين دواويني الشعرية الثلاثة كلها تحمل هذا الحرف المعبر الجميل: "مقام العروج"، "وصايا الخروج"، "فرحة من زجاج”، فقد لقيت هوى في نفسي، وإلا فهو شاعر مبدع وله قصائد كثيرة وعلى كل منوال، والجانب الثوري المناهض للعدوان هو السمة الأبرز لديه. وهناك شعراء كتبوا قصائد جيمية ومنها زامل "عليك صليت ما فيض الغمامة فاج”.
وعموما الجيم حرف قوي. ومن خلال السواد الأعظم من الكلمات الجيمية، في الشعر العربي والأمثال الشعبية وفي القرآن كنموذج أكمل، في الأسماء والعناوين الهامة، ومع كونه حرفا أرضيا، إلا أننا سنجد أن له دلالات، حين يأتي أول الكلمة ودلالات حين يأتي وسطها ودلالات حين يأتي آخرها: الجن، المعارج، البروج، النجم، مارج، الجحيم، الجنة، جهنم، الجاثية... والمجال لا يتسع لدراستها هنا.
وفي هذه القصيدة للشاعر صالح حسين الباكري سنعرف من خلال المفردات والمفردات المتعلقة بها في الأبيات والمعاني كليا وفي أجزائها أننا في مدارات الجيم، ليس الجيم لذاته، لكن ربما لأن الجيم في أبراج الشاعر، وربما لأن الشاعر ونحن في أفلاك الثورة، وهذا الزخم الثوري الهائج الذي يخوضه الشعب اليمني ضد الغزاة.
إذن، نحن في وضع يفرض نفسه وحالة خلقت طقوسها وعناصرها التكونية والفلكية والمدارية بحيثيات رسمتها غاية عليا، هي التحرر والاستقلال والحياة على الطريقة السوية التي اقتضاها الله، وإلا فسيجد المجتمع الإنساني نفسه ضمن كيانات شيطانية في مواجهة الغاية التي لأجلها خلق:
"وابن السعودي عليه اليوم مغتجة
واصبح يدور لحيلة توصله مخراج".
وباعتقادي أن كل المرتزقة المتعاونين مع العدوان السعودي على اليمن هم "ابن السعودي" بالتبني، والمهم أن السعودي وابن السعودي وأبناء السعودي بالإنجاب وبالتبني وبالحضانة صاروا كلهم في حيرة من أمرهم، لأنهم، بالعدوان الهمجي الذي شنوه على يمن الحضارة وأبناء اليمن الشرفاء الأعزاء، صاروا في ورطة مع معرفتهم المسبقة بأن اليمن لا يهزم، للأسباب والمعطيات البينة، من حيث امتلاك الشعب اليمني القوة البشرية والعسكرية والتاريخية والجغرافية والإيمانية الكبيرة، ومع ذلك جازفوا ويعرفون نهايتهم المخزية، لكنهم مدفوعون من أمريكا و"إسرائيل"، ومدفوعون من عقولهم العفنة وصدورهم الحاملة للمرض والحسد والغل المزمن، لهذا هم واقعون في ورطة فعلا، ويبحثون عن حلول لإخراجهم منها، وهيهات، فقد سبق السيف العذل.
"أعلاه سافل وصبحه يمتلي لجة
واظلم نهاره وليله بالمصايب داج".
رأسه أسفله، لا ليله ليل ولا نهاره نهار، في وضع حرج ومخز...
وصبحه يمتلي لجة، اللجة في قوله تعالى "بحر لجي"، أي مظلم وظلامه ذو طبقات، ويقال: "الحق أبلج والباطل لجلج”. هذا الكلم النير جزء من مخزون بنكي قرآني وإمامي كبير في وعي الشاعر ويدل على جذور ثقافية قوية وأصالة معرفية مطلة من نافذة روحية شاركت في الخندق والشجرة، وبحماس أنصاري باسم كلمعان سيوف خزرجية، ألهم هذه الشخصية الجهادية القصائد المعبرة عن الحالة الشعبية التي يعيشها المجتمع اليمني في حروبه ضد الغزاة المعتدين ومرتزقتهم. نحن مع شخصية أنصارية سباقة في دفع الظلم والذود عن حياض الوطن. إنه الشاعر البداع صالح حسين الباكري (أبو أحمد).
"البر والجو والأمواج ملتجة
من كل وجهة غضبنا بالمنايا هاج".
وصف لحالة حربية ملتهبة في كل مكان، مناهضة للعدوان، وباستعداد كامل لهذه المواجهة، لأن اليمنيين أصلا في وضعية جهادية دائمة. الإنسان اليمني لا يخلع سلاحه الشخصي إلا حين ينام، هذا في حالة السلم، وإلا فسلاحه لا يفارق خصره طوال الوقت.
"هاج الغضب هاج ما شي للهرب فجة
وارض اليمن درب يغلقها لهب هجهاج".
القافية في صدر البيت وعجزه مشبعة بمعاني الجيم، المشبع بهيجان المعارك وحماسة الجيش الشعبي العارم المحيط بالعدو من كل جانب، إذن فأين سيولي العدو فرارا؟! لا مجال، لأن اليمن جهنم الغزاة.
"يا صرخة الحق رجي السعوده رجه
يبعث بها نور آية نصرنا الوهاج".
الصرخة اليمانية الإيمانية الثورية الشعبية الواحدة الموحدة، هذه الصرخة نورانية المشكاة، نارية في العدو، لا شك منتصرة، لأنها صرخة الحق لتقويض الباطل، وهزيمة ودحر الكيانات النكرة.
"صرخة عظيمة إذا اشتدت لها عجة
تنتف ذراهم وتنسف ما بنوه ابراج”.
أين تكمن عظمة الصرخة يا ترى؟! تكمن في عظمة الصارخ، بالتأكيد. إن صرخة ياجورة واحدة في قصر صنعاني عمرها آلاف السنين مشبعة بالتلاوات وتسابيح المساجد التي أظلت الأنبياء والمرسلين والأنصار وانطلقت من حناجر ذرية آدم ونوح وإبراهيم ومحمد وآله وأهل الإيمان، ياجورة واحدة في مقابل أبراج الشيطان الحديثة، وخلية واحدة في حبل صوتي في حنجرة رجل من شبوة أقوى وأشد من مجتمع أعرابي هجين في صحراء نفطية.
"عالي صداها وللامريك هي دجة
ديجورها اظلم ومنهم ما تبقي ناج".
صدى صرخة ودجة واحدة من سلاح يمني أصيل أسقطت ما زعم العدوان من شبح يدعى أمريكا؛ يا لها من وهم!
"صرصر عتية اتت آباره الثجة
تنضب ينابيع نفطه بالبلا ثجاج".
ما يزال الشاعر اليمني الأصيل يمتدح الصرخة ويتغنى بها كأنها ترنيمة، لكنها عتية في فعلها على كل غاز دخيل ومرتزق عميل، لأنها آتية من ينابيع ثجاجة. وهي ثجاجة لأنها أصل ومنبع تدفق الرجال الأقحاح، الرجال هم المال في الحقيقة، والنفط الحقيقي هي الرجولة، مكمن الأصالة ومكارم الأخلاق.
صالح حسين أبو أحمد صرخة شبوة الثجاج، شاعر غزير الإنتاج، نضاح بالكلمات الثائرة والمؤثرة، متفاعل مع الأحداث بشغف ثوري وإبداعي بلا نظير، سريع الرد، بديع المجاراة.
والقصيدة من أولها إلى آخرها جميلة وقوية ومعبرة، وفيها اشتغال فني مترع بالشعر بلا تكلف، وفيها كم هائل من الجمال، لأنها صادرة عن شاعر جميل متمكن من النظم متحكم بالقافية، شاعر إبداع، نظام محترف، متزن ناضج، قلب نقي، عقل نظيف، ليس لديه مشكلة مع أحد سوى العدوان على اليمن، مناهض للعدوان من أول يوم، ونشر ضده قصائد كثيرة.
وابن السعودي عليه اليوم مغتجة
واصبح يدور لحيلة توصله مخراج
أعلاه سافل وصبحه يمتلي لجه
واظلم نهاره وليله بالمصايب داج
البر والجو والأمواج ملتجة
من كل وجهه غضبنا بالمنايا هاج
هاج الغضب هاج ماشي للهرب فجه
وارض اليمن درب يغلقها لهب هجهاج
ياصرخة الحق رجي السعودة رجة
يبعث بها نور آية نصرنا الوهاج
صرخة عظيمة إذا اشتدت لها عجة
تنتف ذراهم وتنسف ما بنوه ابراج
عالي صداها وللامريك هي دجة
ديجورها اظلم ومنهم ما تبقي ناج
صرصر عتية أتت آباره الثجة
تنضب ينابيع نفطه بالبلا ثجاج
شقي بهم جرح ما يشفي الدوا شجه
موجع وقاسي يعذب به ملوك العاج
الله أكبر وعزم اقروم له هجة
لا بد يا قدس نلبس فوق راسك تاج
يطهر يمنا من اقصى ابين إلى حجة
والعرش يفتح وبيت الله للحجاج
الصبح لبجة ومن بعد العشا لبجة
والمال ينفد وحدك ممتلي أفواج
وان عدت عدنا وما شي بعدها طجة
إلا جهنم ومالك قابض الملباج
راحت عليكم وفي جيزان مغتجة
ما فاد جمعك ولا الأسطول والميراج.
* نقلا عن : لا ميديا