جميلة جدا هذه الموازاة بين ولادة النبي وأمته في قصيدة "ولادة نبي وأمة" وكأنه وإياها توأمان. في هذا العنوان استطاع الشاعر صالح عنبل إبداع صورة شعرية معبرة ومؤثرة بأسلوب ذكي. وعموما هذه التوأمة البديعة بين ولادة النبي وأمته لها أصول معرفية تشير إلى تأثر بنور قرآني فلهذا صيغت بأسلوب فلسفي يشبه الشعر أو أسلوب شعري يشبه الفلسفة، لكن فيه أيضا وعي بمكونات التاريخ، فالأمة التي تولد مع نبيها هي بالتأكيد شريكته في التكليف وفي البناء، وهذه دلالة على استمرارية الرسالة في وعي الأمة المستحضرة -بصورة حية ومستمرة في واقعها الحي- نبيها كضمير يقظ لا تغفل عنه، الأمر الذي يؤكد تجاوز الشاعر لمفاهيم سائدة حول التكليف والاستخلاف، وأن الأمة تحمل أوزار التقصير في العمل بالقدر الذي تريد مشاركته استحقاق الخيرات وفي مقام الخيرية، ولأن الخطاب أو البيان الشعري يعني في فحواه وفي ظاهره وباطنه الأمة كشريك في التكليف وفي استمرارية تحقيق غاية الاستخلاف، من واقع ضوء المنهاج النبوي، كونه أباً فكرياً ومثالياً، ومن واقع التزامها بتحقيق المثالية كونها أماً بالمعنى الروحي والقيمي، تلك شعرية العنوان. على ضوئها تعرفنا على أهمية اشتغال الشاعر على بناء النص الشعري بتركيز عال، وأنه (أي العنوان) ما تمخض عن هذا الجمال والاكتمال إلا لإخلاص الشاعر عنبل في صياغة مشاعره بوعي وبإمعان وانهماك، هذا الانهماك ساهم في إطالة القصيدة، لكنها إطالة بنفس الجودة وفيها شعرية متجددة لا تبعث على السأم.
إن لاسم الشاعر عنبل، إضافة إلى نصوصه، دلالات امتداد يمانٍ وعراقة، وثمة ما يوحي بصوت قادم من ممالك ضاربة في التاريخ، تذكرني بهيبة أسماء كـ"حنابعل" و"هاني بال"، وثمة حماسيات أشترية وفتوحات يمانية. صالح عنبل فعلا صوت يقدم أفكارا قوية وبأسلوب عصري أنيق.
سنلاحظ في القصيدة حضور "هاء" التأنيث بقوة، لأن الموضوع متعلق بالأمة، ومن أساليب العرب إذا أرادت منح قدسية لشخصية عظيمة إضافة تاء أو هاء التأنيث لاسمه، نحو قولهم: فلان من نسابة العرب، وتسمي قبائل اليمن المرجع القبلي مراغة، كما يصف المسلمون العالم الجليل بالعلامة والفهامة، وهكذا هلم جرا. هذا من جانب.
ومن جانب آخر، القافية الهائية في كل بيت ساهمت بشكل واضح في تأييد ودعم فكرة الأممية التي تنضح بها القصيدة والتي تبين مدى حاجة الإنسانية في زمننا لعاطفة الأمومة وتفتقد مقدارا كبيرا من حنانها، ولتعيدها بنوع من الحنين إلى أصل واحد قد يرأب صدوعها ويلم شتاتها الوجداني. هناك مهتمون يدرسون أسباب هذه التشظيات النفسية في وجدان الشعوب ويريدون طرح نظريات كلها تصب في مسألة الرجوع إلى الأصل، على الصعيد الجغرافي والحضاري.
القصيدة في فحواها أممية وفي هيكلها نبوية وفي بنائها شعبية وغايتها تحفيزية، تصلح لأن تكون إنشادية يمنية، باعتبار بيئتها، وعربية باعتبار مخزونها الكلمي، وإنسانية باعتبار ما يسكنها من هاجس توحيدي.
وإلى جانب ترقي الأمم بفعل حضور سماوي متصل بالنبوات كانت ولادة خاتمها النبي محمد عليه السلام إضافة نوعية لذلك الحضور، وأنه لم يكن عاديا، فكانت ولادته بحجم عظمته وعالمية رسالته، أضف إلى ذلك بياناً شعرياً عن وضع الأمم حين ذاك ووصف لحالة عطشها الوجداني لميلاده، ونتيجة لتأخره خمسة قرون بعد أن بشر به المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، فكان ميلاد محمد كمهرجان كوني كبير، فهو نبي الرحمن إلى العالمين وبالضرورة تعتبر أمته خير أمة أخرجت للناس.
عنبل شاعر ممتاز يعرف الأفكار التي تريدها المرحلة، ويشتغل عليها بسبك شعري جميل، وبتسلسل فكري وتصوير بـديع، لذلك كانت البداية محتاجة للنهاية في النص، والعنوان متوائماً مع المناسبة والراهن، فكانت التوأمة بين الأمة والإمام في الميلاد وفي التكليف وفي الاتباع والصيرورة حتمية.
تحية لأبي وائل صالح عنبل الشاعر الناضج الذي قدم الكثير من هذا الوهج الشعري اليماني الخالص، وشاهدناه مواكبا لتحولات الأمة منذ البداية الأولى لمواجهة العدوان.
القصيدة
زمن ما العرب بارض القطيعة مشردة
فلا شي يجمعهم سوى الجهل والجمود
وتوراة موسى افلاس باحبار وارصدة
والانجيل تصنيفين: الاسياد والعبود
ولد والسماء تمطر غضبها وتوقده
بفيل ابرهة والطير عن كعبته يذود
ولد سيد الاكوان والليل بدده
فخرت سماواته والارضين له سجود
يصلي عليه الله ربه وسيده
وسلم عليه الواهب المعطي الودود
دعا الخلق الى وحدانية رب يعبده
ولا رب غيره صادق الوعد والوعود
فلبى اليمن والله فيهم مؤيده
وجاء ابطال نصر الله والفتح والوفود
سيوف العقيدة والحصون المشيدة
وعزم الكواسر والطواهيش والاسود
رجال الاباء والبذل في كل الاصعدة
رجال التراحم والتلاحم في الجهود
بدت هجرته تحمل ولادات واجندة
ولادة حقيقية لدينه على الوجود
وميلاد ثوري حطم اغلال الاصفدة
وثورة جهادية على الكفر والجحود
وفي حضن اعز الناس يعلن تمرده
من احيوا سبيل الله بالمال والجنود
ولادة نبي وامة وقوة مجندة
ومشروع دولة عالمية بلا حدود
بعمق استراتيجي و(اعدوا) تجسده
قوى الفتح الاسلامي في الروم والهنود
محمد رسول الله وامة موحدة
ولادة حقيقية من البذل والصمود
ففي مكة البعثة وفي يثرب أيده
لتمييز مؤمن صدق من مدعي حسود
نلبي رسول الله بابدان وافئدة
وتهتف بحبه ساحة الحشد والحشود
واذا حب خير الخلق يسكن بالاوردة
فحب آل بيته حل الاعماق والكبود
غلاهم بنا سنة جلية مؤكدة
ولا خير في مسلم تخلى عن العهود
وإذا حب طه قد جمعنا بمولده
فلا بد تجمعنا كراهية اليهود
واذا الحب يجمعنا بفرضه ومسجده
فلا بد يجمعنا لقا خصمه اللدود
اإذا قد جمعنا به كتابه بالابجدة
فلا بد يجمعنا العمل به في الخلود
واذا امست سيوف الحق وأضحت بالأغمدة
فلا تنتظر عزة من الوهن والقعود
ففي كل أمة هاد والبدر موعده
لتنشيط هذا العصر من حالة الركود
طريق استقامتنا أقامه ومهده
وازال العوائق ذي بها من هدى ثمود
وباب الهوى والزيف صكه وبنده
واعد السلالم ذي تساعد على الصعود
وجا الشعب الايماني لبن بدر يسنده
وصدق التولي عهد والحرية وجود
على الحق كم ضحى بفلذات الاكبدة
وعهد انتصاره عهد الاحفاد والجدود
يماني ولا ايمانه هوية مقلدة
هوية أساسية من المهد الى اللحود
بنى للكرامة صرح عالي وشيده
واساساته الصلبة ثبت فوقها العمود
الاعلام والعترة والانصار الاعمدة
أخوة كتبها الدم وامضت به العقود
بنى حرية عزة سيادة مخلدة
ورفض الولا للوبي الجاحد الحقود
شهر سيف جده من غماده وجرده
وجدد ظهوره حسب الاحكام والبنود
محمد وسيف الحق مشهور في يده
ومن بعده اوصى به وصيه على الشهود
فسله علي رغم الظروف المعقدة
لحتى رحل واستلت الذلة النقود
فتارات يتواجد وفترات نفقده
وقاضي معه ذمة وتسعة بلا قيود.
* نقلا عن : لا ميديا