كتبت/
زينب عبدالله
اسمع يا ريان..
كان يا مكان، في وقت من الأزمان، سقط طفل صغير في بئر ضيّقة يصعب الوصول إليها. لم يكن إخوته هم الذين ألقوه في غيابة الجبّ، كيوسف عليه السلام. كان ريان يلهو عندما نسي والده أن يقفل فتحة البئر التي أمضى فيها أياماً لا شكّ أنها كانت أصعب ما قد مرّ على طفولته وما كان سيظلّ محفوراً في ذاكرته لو قُدِّر له البقاء على قيد الحياة.
وأنت في ذلك القعر العميق، يا ريان، كان العالم بأسره يصلّي لنجاتك ويستحضر كلّ قوة لإنقاذ حياتك. لكنني أظنّك قد صمدت كلّ تلك الفترة، وتحمّلت ألم الكسور التي أصابت عظامك الهشة بسبب السقوط، بأُنسك بالسكينة التي يلقيها الله في قلوب أحبابه.
هل تعلم يا ريان أنّ إخوةً لك على المقلب الآخر من العالم، حيث لا كاميرات ولا بثّ مباشر، ولا وسائل تواصل تضجّ بمعاناتهم، يقتاتون على أصوات القنابل بدل الخبز الذي انعدم في حياتهم، ويتنفّسون غبار الموت منذ سنوات سبع وبعضهم أكثر؟
في اليمن يا صغيري هناك أتراب لك، إن كانوا مازالوا على قيد الحياة، فهم إما مشرّدون أو مشوّهون، أو بالحدّ الأدنى محرومون من العلم والدواء والطعام. في اليمن أطفالٌ دمهم عربيٌّ كدمك، ترابيّون من صحراء الأرض التي ما عادت سعيدةً أبداً. هم من بلد شقيق لبلدك، عريقٍ منذ مملكة سبأ وقبلها، لكنّ هدهد سليمان لم يأت العالم بالخبر اليقين. هل تظنّ مثلي أنّ قذيفة أصابت منه مقتلاً كي لا يخبرنا عمّا يعانيه أطفال اليمن؟
في اليمن مجازر سحقت عائلات بأكملها، ولكن الكون بأسره لم يحرّك ساكناً لشجبها، لم يدعُ بالرحمة لأرواح شهدائها. في اليمن جرح الإنسانية عميق جداً، أعمق من البئر التي قبعت فيها يا ريان، والجرح مازال ينزف.. لو أنك بقيت على قيد الحياة، أتخيل أنك كنت ستعود إلى مدرستك بعد أن تتعافى لتخبر زملاءك أن لا سقف يؤوي تلاميذ اليمن. لتخبرهم أنهم يتعلّمون في بقايا أبنية متصدّعة، وأنّ مدرسيهم لم يتقاضوا رواتبهم منذ زمن، ومازالوا بهمّة اليمني الأصيل يؤدّون واجبهم على أكمل وجه ممكن.
لعلّك كنت ستخبر جيرانك أنّ العتمة التي استهلكت من عمرك أيّاماً معدودة هي الحال المعتادة في صنعاء والحديدة، وفي صعدة.. أظنّك كنت ستخبر الطبيب الذي سيهتمّ بصحّتك الجسدية أنّ أوبئة تفتك بهم منذ سبعٍ عجاف، لا دواء متوفّر لها، لا لقاح، ولا تجهيزات طبية. وستخبر من سيتابع صحّتك النفسية أنّ أترابك في اليمن رأوا بأمّ أعينهم أشلاء إخوتهم وأهلهم، وأنّ هذه المشاهد ستظلّ تطارد إنسانيتهم إلى يوم يُبعثون.
حبّذا لو بقيت لتصرخ بدلاً منّي بوجه العالم! حبّذا لو أنّك حين خرجت أمسكت بطرف رداء والدك وهمست بأذنه: يا أبتي، لأولئك حقٌّ علينا أيضاً. حبّذا لو أنك ذكّرته بآية الكتاب: "وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ" (الآية 146 من سورة البقرة).
في اليمن، كما في فلسطين، والعراق، وأفغانستان، وسورية، والبحرين، والجزيرة العربية، آلاف القصص لم تُروَ بعد. في كلّ تلك البلدان طفولة شرّدتها ازدواجية المعايير، أصمّها الصمت الدولي، وذهب ببصرها التخاذل اللامتناهي.
مِن الأطفال مَن هو طفل اليمن. ومنهم من يجد نفسه في خضمّ حربٍ تحصد روحه أو جزءاً من جسده، أو يقبع في زنازين "الإسرائيلي" المحتلّ لأرض التين والزيتون. ومنهم من طبع في ذاكرته إرهاب "داعش" وأخواتها اعتداءات لا تنتمي لأي من الأديان. وآخرون كان نصيبهم من انتهاك حقوق الأطفال حرمانهم من أهلهم الذين قالوا كلمة حقّ بوجه سلطان جائر.
لتَرقُد بسلام يا صغيري، ليس الذنب ذنبك أبداً. الذنب ذنبنا نحن من صدّقنا الأمم المتحدة التي أعلنت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أن للطفولة الحق في رعاية ومساعدة خاصتين، وأنّ الطفل، لكي تترعرع شخصيته ترعرعاً كاملاً ومتناسقاً، ينبغي أن ينشأ في بيئة عائلية في جو من السعادة والمحبة والتفاهم!
عسانا يوماً نُصبِحُ على إنسانية.
* نقلا عن : لا ميديا