في مقالي الأخير بتاريخ الـ 16 من تموز/ يوليو بعنوان: “إردوغان بين بايدن وبوتين… أين المفر؟” تحدثت عن النتائج المحتملة لقمة طهران، وقلت: “مع انتظار النتائج الملموسة والعملية لقمة جدة، وخاصة في ما يتعلق بالحلف الإقليمي ضد إيران وتلبية دول الخليج لمطالب بايدن الغازية والنفطية، وهو ما سيراقبه إردوغان عن كثب، فإن آخرين سيراهنون على نتائج قمة طهران التي سيسعى خلالها بوتين ورئيسي لإقناع إردوغان بضرورة المصالحة مع الرئيس الأسد “ما دامت المخاطر التي تهدّد الطرفين مشتركة”، ويقصد بذلك الميليشيات الكردية المدعومة أميركياً وأوربياً شرق الفرات.
في الوقت الذي يبدو فيه واضحاً أن إردوغان لا ولن يفكر في مثل هذه المصالحة، لحسابات معقدة، ما دام مستفيداً من وجوده في سوريا (كما هو الحال في ليبيا)، وهي ورقته الأهم في مجمل المساومات مع طرفي الكماشة الأميركي والروسي، ويسعى لمواجهتهما معاً بعشرات الآلاف من المسلحين والموالين، والآلاف منهم من الشيشان والاويغور، سلاح إردوغان الأخطر في التصدّي ليس فقط للضغوط الخارجية، بل أيضاً لمواجهة السيناريوهات المحتملة قبل الانتخابات المقبلة وخلالها وبعدها”.
وجاءت نتائج القمة في هذا السياق، إذ استمر إردوغان في نهجه التقليدي الرافض للحل النهائي للأزمة السورية، على الرغم من البيان الختامي الذي وقّع عليه، وفاجأ الجميع باستنكار إردوغان (صديق تل أبيب الجديد) وكل من رئيسي وبوتين الهجمات الإسرائيلية على المواقع السورية، مع تأكيد سيادة سوريا على الجولان المحتل.
كما فاجأ إردوغان الجميع عندما “استنكر الأعمال الإرهابية التي تستهدف المرافق المدنية في مختلف أنحاء سوريا، ولكن من دون تسمية الأطراف الذين ينفّذون هذه العمليات. كما أكد إردوغان مع بوتين ورئيسي “سيادة الجمهورية العربية السورية واستقلالها ووحدتها ووحدة ترابها، ورفض أي عمل يتناقض مع ذلك، وأياً كان مصدره، ورفض النزعات الانفصالية والأعمال الإرهابية التي تستهدف دول الجوار”. وكالعادة، كانت إدلب الموضوع الأهم في القمة، إذ أكد الزعماء الثلاثة في بيانهم المشترك “ضرورة تطبيق كل الاتفاقات والتفاهمات الخاصة بإدلب ومناطق خفض التصعيد، وضرورة العمل المشترك لضمان استمرارية الوضع الراهن في إدلب”.
ومن دون أن يهمل البيان المشترك التطرق إلى “عمل اللجنة الدستورية في إطار تفاهمات أستانة، تحدث عن ضرورة عودة اللاجئين السوريين إلى أماكنهم الأساسية”.
هذا عن البيان الذي صدر في ختام القمة، وانتهت بالمؤتمر الصحافي للرؤساء الثلاثة، وتحدّث كل من زاويته الخاصة، مع تطابق وجهات النظر الروسية – الإيرانية وإردوغان لا يتفق معها، وهو ما كان واضحاً خلال حديثه في المؤتمر الصحافي، حيث قال إنهم “مصمّمون على اقتلاع جذور الإرهاب من سوريا، والذي يستهدف الأمن القومي لتركيا”، مؤكداً “أهمية وضرورة العمل المشترك ضد داعش وحزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب الكردية”، وقال عنها “إنها خطر على الجميع” .
ومن دون أن ينسى إردوغان “تحميل النظام مسؤولية فشل أعمال اللجنة الدستورية وعدم تطبيق العديد من التفاهمات والاتفاقيات الخاصة بإدلب”، مُعبِّراً “عن ارتياحه للهدوء الذي يخيّم على الوضع هناك”.
وكان اللاجئون، وكالعادة، من أهم فقرات الخطاب، حيث كرّر إردوغان، خلاله موقفه المعروف وحديثه عن إسكان السوريين في البيوت التي تبنيها لهم تركيا في جوار إدلب، تأكيده ضرورة عودتهم بشكل آمن ومُشرّف وكريم إلى بلدهم، وهو ما يجب ضمانه من الدول الثلاث والأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية على حدّ قوله، في إشارة منه إلى “عدم ثقته وثقة اللاجئين بالرئيس الأسد”.
هذا باختصار عن التناقض بين المكتوب والمسموع عن موقف الرئيس إردوغان، وعبّرت الصورة بشكلٍ أوضح عن هذا الموقف، حيث جلس خلفه مباشرة رئيس جهاز الاستخبارات هاكان فيدان، وكان إلى جانبه وزير الدفاع خلوصي أكار، وكأن إردوغان أراد أن يقول للجميع “هذه هي لغتي في التعامل مع أطراف الأزمة السورية”.
وأما الصورة الثانية، فإنَّه في الموقف التركي، تجاهلت وسائل الإعلام الخاصة والحكومية والموالية لإردوغان أقوال الرئيسين بوتين ورئيسي، وأكّدت “الموقف الثابت لإردوغان في موضوع حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب الكردية”، واعتبرت ذلك انتصاراً للدبلوماسية التركية… وبثّت وسائل الإعلام هذه ومعها منصّات التواصل الاجتماعي فيديو قصير للرئيس بوتين وهو في الغرفة بمفرده ينتظر مجيء الرئيس إردوغان، واعتبرت ذلك “موقفاً ذكياً من إردوغان الذي جعله بوتين ينتظر أمام صالة الاجتماع في قصر الكرملين في الـ 5 من آذار/ مارس 2020″، حيث التقيا لبحث التوتر في إدلب .
وكانت وما زالت، أي إدلب، الموضوع الرئيسي في الحوار التركي – الروسي/ الإيراني في إطار تفاهمات أستانة والاتفاقيات الخاصة بذلك. فقد تهرّبت أنقرة من جميع التزاماتها وتعهداتها التي وقّع عليها الرئيس إردوغان في سوتشي في الـ 17 من أيلول/سبتمبر 2018، ثم موسكو 5 آذار/مارس 2020، وتضمنت نزع سلاح المجموعات الإرهابية في إدلب، والمقصود بها النصرة وحليفاتها. والغريب أن البيان الختامي في طهران لم يتطرّق إليها، لا بالاسم ولا بالمضمون، وهو ما اعتبره إردوغان انتصاراً له باعتبار أن أنقرة هي الضامن الرئيسي “للهدوء الذي يخيّم على المنطقة”.
أما التناقض الآخر بين البيان الختامي وخطاب الرئيس إردوغان الذي أكّد التزامه باستقلال سوريا وسيادتها ووحدة أراضيها، فهو أن إردوغان والبيان أيضاً لم يتحدّثا عن استمرار الدعم التركي الشامل والمطلق وعلى جميع المستويات لما يسمّى عشرات الآلاف من مسلّحي ما يُسمّى الجيش الوطني السوريّ الذي تمَّ تأسيسُهُ في أنقرة في تشرين الأول/أكتوبر 2019، وقبل فترة قصيرة من توغّل الجيش التركي ومعه هؤلاء المسلحون شرق الفرات، ليسيطر على المنطقة الممتدة من تل أبيض إلى رأس العين بطول 110 كلم وعمق 30 كلم.
وهو ما فعله الجيش التركي قبل ذلك في عفرين وجوارها في كانون الثاني/ يناير 2016، وفي المنطقة الممتدة من جرابلس إلى الباب إلى أعزاز في آب/ أغسطس 2016. وكان كل ذلك بضوء أخضر روسي جعل من تركيا العنصرَ الأهمَّ في مجمل التطورات والمعادلات والحسابات الإقليمية والدولية الخاصة بسوريا، وتسيطر تركيا بمختلف أجهزتها على تسعة في المئة من أراضيها، وخلافاً للبيان الذي تحدث عن وحدة التراب السوري وسيادة الدولة على كامل هذا التراب، ولكنه لم يتحدث ولو بجملة عن الوجود التركي. وباستمراره، لا ولن يكون الحل في سوريا قريباً، ما دامت أنقرة ترى في الرئيس الأسد “سبباً أساسياً لمجمل أحداث سوريا واستمرار الوضع الحالي فيها الآن”، وهو ما كرّره إردوغان عدة مرات في خطابه في طهران (وفي العديد من المناسبات) ليقول: “إن تركيا ليست سبب الأزمة حتى تتحمّل مسؤوليّةَ حَلِّهِا بمفردها”، ومن دونها لا يمكن تحقيق هذا الحل!
وأخيراً، وعودة إلى مقالي السابق الذي أشرت إليه في بداية هذا المقال، فقد فاجأ الداعية أحمد محمود أونلي الجميع بتصريحاته النارية ضد إردوغان وأجهزة الدولة ومن دون أن يسميها، حيث اتّهمها “بتجاهل فعاليات وأنشطة المجموعات السلفية الوهابية في تركيا”، وقال عنها إنها “تقوم بأعمال التحريض على الحرب الأهلية، بعد أن قامت بتسليح الموالين لها في مختلف أنحاء البلاد”.
وهو ما تحدث عنه زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو عدة مرات، إذ أشار إلى “العلاقات السرية والخطيرة بين أجهزة الدولة الموالية لإردوغان والمجموعات الإرهابية في إدلب، “وهو سرّ الموقف التركي الرافض لأيِّ معالجة إقليمية ودولية للوضع هناك، وعلى الأقل حتى الانتخابات المقبلة. ويضع المراقبون من أجلها العديد من السيناريوهات المثيرة والمرعبة، ما دام إردوغان لا ولن يتخلى عن السلطة، ومهما كلّفه ذلك داخلياً وخارجياً وفي سوريا بالذات!
* المصدر :رأي اليوم