هل من الحكمة، التي هي ضالتنا، أن نولي اهتماماً لهدنة زائفة، وننفق الوقت والجهد والرحلات المكوكية وما تبقى في العقل من قدرة على التفكير والرؤية الشاملة، بعد أن تشظت الأوضاع وتناثرت في اتجاهات متعددة، واجتماعات متواصلة، لم يسفر عنها حتى الآن أي نتائج تذكر، فأصبحت مثل ذرات تهيم في الخلاء حول نواة غير مرئية لا نبصر منها غير جزيئات وتجليات لعجز جامع مانع على كافة المستويات، عجز جعلنا نعيش في مرحلة تستهلك نفسها في كل لحظة؟!
إنها مرحلة لحظوية لا تاريخية، غير قابلة للتسمية، وغير قابلة للقسمة، مرحلة تعبر على الشاشات غير قابلة للتجسيد، مرحلة لا توجد فيها سعادة ولا حزن ولا معنى، مرحلة تهزأ من التأويلات والتبريرات، مرحلة لا تحتاج إلى من يعللها ولا تعنيها الأحكام الأخلاقية، مرحلة يصعب تعليل مصادرها وأسبابها، ويصبح اقتناص الصورة الكلية للمشهد بحاجة إلى جهد إيجابي يرتفع من الخصوصيات إلى العموميات، ومن الأجزاء إلى الكليات، ومن الأفراد إلى الجماعات، ومن سياقات متعددة إلى سياق أشمل...
فقد جرت تطورات مأساوية على كافة المستويات، فلم تتوقف حمامات الدم اليومية، والحصار الاقتصادي مستمر، والمطارات مغلقة، والحواجز وأسوار العزلة المسلحة بين المدن مازالت قائمة، والرواتب منقطعة، واستخدام القوة العسكرية المفرط بخشونة وغشامة استقر في تقاليد العدو ومازال يمارَس، والصمت الدولي والعربي والدفن الصامت دون جنازة أو تشييع أو تأبين لمفهوم الثورة والتغيير مازالت تتجلى برموز عديدة وتسميات متعددة، منها موت الإنسان جوعاً وتأزماً، موت المعنى والقصد والهدف... ولا أحد يعرف ماذا بعد!
إذ تغدو قيمة الإنسان بمقدار ما يملك، في مرحلة قابلة لكل الاحتمالات، مرحلة رُفعت فيه الأقلام وجفّت الصحف، ولا داعي للنقد ولا للمراجعة، وليرحم الله شهداء الأمة وأوراق وملفات طاولة الهدنة المختلطة والمتداخلة والكثيرة، ومع ذلك لا تكفي وحدها لتكمل المشهد المركب للهدنة ولملمة المواضيع المتناثرة في كل الاتجاهات، وبات واضحاً للذين راهنوا على الهدنة الضالة والنصر الذي سوف يأتي على أسنة رماحها وكبديل وحيد، لعلهم خسروا الرهان والمعركة وكسبوا الوقت والعقول والقلدوب، وخسرت معهم الهدنة المأمولة وراحت ضحية الاستعلاء والعناد والغباء، وأصبح الوضع الداخلي مأزوما اقتصاديا، والناس تعاني من الجوع والمرض وأزمات الوقود والغذاء، من نظام سعودي شبه منقرض وغير قادر على التكيُّف مع المتغيرات والاتفاقيات الباسطة قوانينها في الوقت الراهن على الوضع العربي والإسلامي.
النظام السعودي ما يزال خارج نطاق السيطرة، عاجزا عن الارتفاع إلى مستوى الأحداث والتحديات الكبرى الجارية وسرعة اتخاذ القرار وحشد القوى اللازمة له، وكأنّ تلك الأنظمة التابعة لا تتخذ القرارات بذاتها، وإنما تتخذها بحكم الهيمنة الخارجية وأيضاً الأحادية المفرطة للحاكم، حيث التشريعات والقوانين تطلق يد الحاكم في نقض ومراجعة أي قرار، بحيث تظل الكلمة النهائية له، وهو ما يكرس لدى الشعوب حالة نفسية من العبودية المختارة التي تجعلها تكبل نفسها بنفسها.
إن أية محاولة للتصدي بنزاهة عقلية ورغبة جادة لتقييم الأخطاء وتصحيحها سرعان ما يتم إجهاضها ودفنها ومعاقبة مرتكبها، ولذلك يظل الفكر السياسي يدور في حلقات مفرغة تنم عن جذب الفكر وعقم الخيال ونمطية التفاعل والانفعال، وتظل صناعة القرار واتخاذه وتنفيذه هي العنوان الرئيسي لأشكال القصور المذهلة في مواجهة الأزمات والتحديات، إذ تغيب العقول السياسية المفكرة عن الاقتراب من دوائر الحكم أو تستبعد، ويصبح أي رأي تبديه محل استخفاف وازدراء أو صمت في أفضل الأحوال.
* نقلا عن : لا ميديا