إن الاختيار الأعمى، الذي غالباً ما يتخذ أشكال الإجهاض والتراجع والإحباط، لم ينقض علينا انقضاض الحتميات التي لا مناص منها، إنما نحن من صنع أو نسج هذا الاختيار المأساوي، عندما اخترنا الصمت يوم الصرخة الكبرى، وعندما اخترنا الانفعال يوم الفعل العظيم، وعندما تركنا سلاحنا وأحلامنا وآمالنا ومستقبلنا في مهب الريح، كي لا يتسنى لنا الخروج من دائرة الظلمات إلى دائرة النور، وألا ننحرف عن مسار القبور، وأن ننظر إلى أدوارنا وأفعالنا وخياراتنا بعيون زائغة راضية تغشاها بهرجة الشعارات الطنانة، وأن نتعامل مع سحقنا وقتلنا وحصارنا وجوعنا وجوع أطفالنا باستخفاف ومهادنة، وألا يكون بين كلماتنا إلا الصمت، فإنه من المؤكد سوف يستفاد من صمتنا وتوجيهنا بيسر أعظم شطر الانحراف والإرادات المتهاوية وإغراءات السلامة الشخصية وسائر أنواع هلاكنا، وترك خياراتنا في مجرى نهر النار، الذي سيجرفنا محافظة بعد أخرى، ونظل نبحث كل سنوات العمر عن مخرج كي لا نغرق في صور مسلسلات العدوان ومضمونها الكئيب والحزين والمخادع، وأن نبقى أسرى مجرياتها السياسية اليومية ننتظر مبادراتها وما تجود بها رياح التغيير الزائفة، والواقع المحكوم بدكتاتورية الاستهلاك والهلاك والزيف والاستلاب.
وكل سنة تمر تعطينا دليلاً على المدى الذي وصل إليه النهابون، على وجه الخصوص أولئك الذين يدعون حرصهم على سلامتنا وأمننا، ومع ذلك يشنون حرباً إعلامية على صمودنا ورفضا للمظالم المتزايدة التي نتعرض لها، وبأي حق؟! بالصلف الذي يتصف به السادة أصحاب المشاريع الفاشلة والمعلقة، الذين سرعان ما يتخلون عن الحقوق الإنسانية تحت دفع أنانياتهم العمياء، يتخوفون من التهديدات الميتة التي مصدرها أعداء ضعفاء، وبذلك يصبح التدخل في صميم الشؤون الداخلية والتوجهات الخارجية أمراً لا غضاضة فيه.
لقد ابتعدوا عن الوطنية، وعن نهضة الأمة والتقييم والإصلاح من الداخل، الذي يسعى إليه أصحاب الاختيار الحر والموقف الوطني الموحد والتفكير الاستراتيجي لأمة تريد أن تحيا حياة حرة كريمة واستقلالية متكاملة، وثقافة تريد أن تزدهر، وحرمات لا بد لها أن تحمى وتصان، في عالم ينعكس فيه الموقف إما إلى أبيض أو أسود، ولا وجود لظلال اللون الرمادي، وفساد النظم وغياب الإصلاح والإنقاذ وقلة الاقتدار في التعامل الحصيف مع اختيار الموقف الوطني والتوجه الصحيح، الذي سوف يكسبها وزناً إنسانياً استثنائياً.
لقد عمل الهدامون، أصحاب الاختيار الرمادي، المعاول بأطول مما يحتمل وأشد مما يطاق. وبكل تأكيد نفهم لماذا تحول البعض إلى الموقف الرمادي؛ ولكن لا نفهم لماذا يتعين أن يكون الموقف الوطني والاختيار الحر فجاً وانتهازياً ومتهالكاً وبلا قراءة صحيحة للأحداث، ودون إدراك للعواقب، وإلى أي مدى يمكن جر هذا الموقف المهادن إلى الشتات والضياع والضعف والركاكة. لقد بح الصوت ولا حياة لمن تنادي!
* نقلا عن : لا ميديا