المثقف والسلطة يتشابهان في القصد والهدف، ويتماثلان في الجوهر والماهية، حتى لكأن السلطة هي النخبة المثقفة، أو لكأن المثقف هو السلطة التي لا تكف لحظة عن أن تتأسس وتتهيأ لتتخذ مكانها المنشود، حيث يغادر المثقف موقعه إلى جبهة السلطة، يقاتل بسيفها من أجل أن يأكل خبزها، ويحمي رأسه منها وتتفتق قرائحه عن ألوان التبرير والتسويغ وشعارات العقلانية والواقعية... يتحول المثقف إلى سلطان كلي القدرة والجبروت عن طريق امتلاكه سلاح الثقافة والمعرفة والوعي، وأيضاً قدرته الفائقة على كشف سياسة السلطة وأساليبها وخططها ومراوغاتها وخداعها وجميع أنواع أسلحتها. ويمضي الطرفان كلّ في حفر نفقه الخاص حتى الوصول إلى نقطة الفوز على الآخر بالضربة القاضية أو بتسوية مؤقتة.
يمضي المثقف في طريق كشف الخداع الذي تمارسه السلطة كسلاح لها، بينما تمضي السلطة في مغازلة المثقف وحمله على تقديم أوراقه كلها، وعلى كشف ما يضمره في نفسه تجاهها، وتستدعيه إلى حضنها الدافئ وأمكنتها الساحرة، شريطة أن يعزف عن أهواء نفسه وشياطينها. وضمن هذه اللعبة الخطيرة والمغرية تقع مواجهات غير محسوبة لا من جانب المثقف ولا من جانب السلطة، كأن الجانبين يعرفان سلفاً كم تنطوي اللعبة على المغامرة وعلى الدخول في ميدان مكتظ بالأسرار.
وفي هذا الحقل، فإن السلطة لا تكتفي بوجه واحد، إنما تتعدد وجوهها بتعدد شروطها ومواجهتها لخصمها، وبتعدد أهوائها ومقاماتها وحساباتها ومصالحها، وفوق هذا سنراها مدججة بالأقنعة ومحملة بتقنيات الرياء والمخادعة، وتمضي بعيداً في الفحشاء، المهم أن تبلغ النقطة التي يستحيل على المثقف أن يقول لها: «لا» من دون أن يرى نفسه وهي تتصدع وتنشف وتنغمر بكتلة هائلة من الخوف والشك واللايقين.
وفي هذا الحقل المسحور لا يبدو المثقف أيضاً أخذاً بلون واحد وطريقة واحدة. إنه كالسلطة، تقتضي مصلحته أن يتخذ لنفسه ألواناً وأوجهاً لا حصر لها، فحيناً يكون ثائراً لا متناهياً لا تنفع معه إغراءات السلطة وأسلحتها المروعة، وحيناً يكون متمرداً يصدع بأعلى صوته: «لا للسلطة، فلتسقط السلطة، لا مجال للمساومة والمصالحة»، ثم لا يلبث هذا المتمرد أن يقتطع بعضاً من كلامه المحرم ليعود القهقرى وليصوغ كلاماً فيه من كلام السلطة وأنفاسها، تلك السلطة التي لا تتواجد في الأوامر العليا للرقابة فقط؛ ولكن تتجذر بعمق ودقة في كل المجتمع، والمثقفون يشكلون جزءاً من نظام السلطة، التي هي ليست شكلاً كشكل الدولة المدنية التي تحكمها القوانين والأنظمة والنقابات والمؤسسات المدنية يستحيل اختراقها وتجاوزها.
إن المثقف وهو يقف أمام الجدار المخيف الذي ترفعه السلطة في وجه المستقبل، لا يسعه إلا إطلاق أشرعة الشك نحو مداها الأخير، والشك هو عين التشاؤم، وبهما يحرر المثقف واحدا من أخطر أبعاده التي يفتقدها أثناء علاقته المأزقية بالسلطة. الثقافة لا تكون إلا انبثاقاً حراً واعياً، والوعي والحرية شرطا حيويتها واستقلالها المعرفي، شرطا وظيفتها النقدية التغييرية.
هناك المثقف الكوني الأممي الذي يعتبر نفسه مالك الحقيقة والعدالة. وأن يكون المرء مثقفاً معناه أن يكون ضمير الجميع وممثل الكل. أما المثقف المتخصص مثقف في حدود معينة في نقط دقيقة ومجالات محدودة. إنه لا يكون مثقفاً إلا في مجالات اختصاصه وفي ظروف عمله وشروط حياته. هذا الانهيار والتراجع والخيانات التي يشهدها الفعل الثقافي يهدد بانتقال أزمة المثقف إلى مستوى أزمة المصير، مصير المثقف ومصير الأمة. ثنائية السلطة والمثقف سوف تظل قائمة مادام المجتمع بحاجة إلى السلطة، فلا يمكن أن نتصور حلاً ذا طبيعة شاملة وحاسمة لهذه الثنائية، ثنائية السلطة والمثقف، إلا بثورة حقيقية تغير البناء الفوقي والبناء التحتي للمجتمع.
* نقلا عن : لا ميديا