يقدم الفيلسوف الأمريكي آلفين توفلر تحقيباً علمياً حضارياً للمجتمع الإنساني عبر التاريخ. ووفقاً لنظريته فإن البشرية شهدت ثلاث موجات علمية، بدأت بالموجة الزراعية، وحتى بلغت الموجة الصناعية الميكانيكية في العصر الحديث حتى نهاية القرن التاسع عشر، وانتهت بالموجة التقنية المعلوماتية التي بدأت مع بداية القرن العشرين ومستمرة حتى الآن.

وبالتأكيد أن هذه التحولات ما كان لها أن تحدث لولا الإنسان. بيد أن هذا الإنسان في حين أسهم في تغيير الواقع وتطويعه لخدمته، فإنه شهد هو ذاته تغييرات بنيوية عميقة في تركيبته، فإنسان ما قبل التاريخ يختلف عن الإنسان في المجتمع الزراعي، غير الإنسان في المجتمع البدوي الصحراوي الرعوي، غير الإنسان في المجتمع الصناعي المدني... ففي كل نمط حياة اجتماعي يتشكل إنسان يتناسب مع حاجات ومطالب ذلك النمط، وتُحدث في الوقت نفسه تغييراً في بنية الإنسان وتكوينه.

مثلاً: ظهور الفن بكافة أنواعه وزيادة الحاجة إليه في حياة الإنسان جاء نتاج المدنية والحضارة، حيث بات للإنسان وجدان كبعد جديد في تركيبة شخصيته، وكلما اتجهت البشرية نحو التمدن والحضارة ازدادت الحاجة أكثر إلي مزيد من الفنون الإبداعية. لم تكن موجودة أو بالأصح لم تكن أساسية في حياة إنسان مجتمعات ما قبل المدنية أو مجتمعات التوحش، لأن مجتمعات الصراع والحروب تستلزم وجود شخصيات صلبة جلفة غليظة في طباعها، وجل اهتمامها ينصب في تربية ونشأة إنسان بهذه الخصائص، وتشترط أن يتمتع بملكات ومواهب تناسب حاجة مجتمع كهذا، مثل الفروسية والشجاعة والمهارات القتالية والقوة.

أما إنسان المجتمعات الحديثة المدنية فبات من الصعوبة بمكان إهمال بعده الوجداني في تربيته ونشأته، فلا إنسان سوي في المجتمعات المعاصرة ويكون فرداً صالحاً يفيد نفسه ومجتمعه من دون صقله عقليا ووجدانياً.

وعندما يؤكد علماء التربية اليوم ضرورة الفن بكافة أنواعه في نشأة الإنسان وتربيته، فإنهم يؤكدون ذلك بألف لام الحاجة والضرورة؛ لماذا؟!

لنأخذ من بين الفنون على سبيل التوضيح فن الرسم، فلا يمكن أن تحصل على مهندسين بارعين في مختلف مجالات الهندسة دون أن تصقل مواهبهم وتنمي خيالهم من الطفولة بمهارة الرسم، فالرسم المنظوري الذي يرتكز عليه كثير من فروع الهندسة لا يمكن إتقانه إلا بوصفه أعلى مراحل الرسم العادي ذي البعدين أو الرسم على سطح أو جدار أو ورقة... حيث يتعلم التلميذ منذ طفولته الرسم بشكله المألوف والأولي، ومع المران والمراس الدائم يصل إلى مرحلة الرسم المنظوري على جدار أو سطح أو ورقة ويحولها من مادة ذات بعدين إلى رسم منظوري متعدد الأبعاد، وهذا ينمي لدى الإنسان ملكة الخيال، والخيال أحد أهم الأسس التي يقوم عليها العلم بكل فروعه ويساعد على إنتاج نظريات وأفكار علمية خلاقة وجديدة.

ومن دون صقل خيال الإنسان يستحيل أن يكون لديك علماء ومتخصصون أكفاء يساهمون في الإنتاج العلمي ويساعدون على تطور المجتمع.

ومن الصعوبة بمكان أن تنزع عن الإنسان المعاصر جانبه الوجداني من بنية شخصيته أو تنكر وجوده أو تهمله، أو تسعى إلى تربية وتنشئة إنسان في مجتمع معاصر وفق آليات تنشئة الإنسان في العصور القديمة، فهذا الإنسان لن يستطيع أن يتكيف مع الناس في محيطه العالمي.

ومع الوقت إنسان شاذ، وبالمحصلة مجتمع شاذ كهذا، سيغدو عبئاً على نفسه وعلى الإنسانية جمعاء، ناهيك عن أن من يقف ضد حركة التطور الاجتماعي ولا يواكبها، فإنه يقود المجتمع إلى الدمار الذاتي.

ولذا فإن من الضروري وضع مداميك مجتمع منفتح على المعرفة والعلوم والفنون أو انتظار الكارثة!