الوضــع الراهــن
زار السفير الأمريكي محافظة عدن اليمنية المحتلة، أواخر تموز/ يوليو الماضي. أقام في قصر المعاشيق، في غياب رئاسة مجلس القيادة الخياني ورئاسة الحكومة العميلة وكذلك وزير الخارجية المرتزق، دون لقاء أي من الشخصيات التي يُفترض أنها جهات "سيادية"، بمن في ذلك عيدروس الزبيدي، نائب العليمي، وصاحب أعلى منصب سياسي كان متواجداً حينها في المدينة.
التقى السفير الأمريكي مسؤولين حكوميين وزار أماكن سيادية، في تجاوز للأعراف الدولية التي تنظم نشاط السفراء والبعثات الدبلوماسية في أي بلد.
كان دخولاً على طريقة هوليوود. لم يكن اللواء العميل مطهر الشعيبي، المُعين في منصب "مدير أمن عدن"، على علم بوصول السفير الأمريكي ستيفن فاجن، إلى لحظة تحليق الطائرة الأمريكية في سماء قصر معاشيق ونزولها إلى المهبط الرئاسي. كان الشعيبي حينها في فعالية في عدن المدنية، وما إن وصله خبر وصول السفير إلى "معاشيق" غادر الفعالية دون علم منظميها، مستجيباً لدعوة السفير.
اجتمع السفير فاجن مع الشعيبي. افترض السفير أنه قلق من تدهور الأوضاع الأمنية، وتصاعُد أنشطة ما سماها "التنظيمات الإرهابية" في عدد من المحافظات الجنوبية.
جال السفير الأمريكي في مدينة عدن مع مرافقين، وزار معسكرات ومواقع عسكرية وأمنية يمنية برفقة عناصر من الاستخبارات الأمريكان، وعقد عدداً من اللقاءات مع قيادات مدنية وعسكرية تتبع "الانتقالي". كما التقى في اليوم التالي بعدد من قيادات المرتزقة، أبرزهم المعينون في مناصب وزيري الصحة والكهرباء ومحافظ عدن.
تزامن وصول السفير الأمريكي إلى محافظة عدن مع توجيه البنتاجون قوات من مشاة البحرية والسفن الحربية نحو منطقة خليج عدن، وفي فترة شهدت زيارة مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان الرياض أكثر من مرة.
زيارة السفير الأمريكي ستيفن فاجن ومن معه من الخبراء وضباط الاستخبارات ليست الأولى خلال هذا العام إلى محافظة يمنية؛ فقد سبقتها زيارات إلى شبوة وحضرموت والمهرة وعدن، وكذلك زيارات السفير البريطاني وطاقمه.
عمليات إعادة نشر قوات المارينز في المراحل الماضية، في شبوة وحضرموت، والزيارات المكثفة للوفود الأمريكية العسكرية من جنرالات الحرب، كما حصل في محافظة المهرة مطلع هذا العام، التي وصل إليها السفير الأمريكي ستيفن فاجن وقائد الأسطول الخامس الأمريكي، تؤكد التوجهات العدوانية التصعيدية.
الموقف الجنوبي الوحيد الرافض للزيارة هو بيان الإدانة الصادر عن "الحراك الثوري الجنوبي" (تيار حسن باعوم)، الذي اعتبرها تدخلات مرفوضة وتتنافى مع الأعراف والقوانين والمواثيق الدولية، وربطها بزيارات سابقة "إلى محافظتي حضرموت وشبوة، وحذر من تغلغل ورغبة صهيونية في السيطرة على الجزر اليمنية بتسهيل أمريكي".
موقف "الانتقالي" من الزيارة
كان عيدروس الزبيدي، عضو مجلس القيادة الخياني، "أرفع" مسؤول في السلطة العميلة متواجد في عدن، أثناء تواجد السفير الأمريكي.
لكن السفير الأمريكي لم يقابل عيدروس الزبيدي كما كان متوقعاً أو كما ينبغي، خصوصاً أن الأخير ظهر بشكل مفاجئ، وفي أول لقاء علني له بعد وصوله عدن، بجانب علم الوحدة اليمنية، رغم أن اللقاء كان مع مسؤولين محليين، لتأكيد أنه نائب للرئيس اليمني، لا رئيس مكون انفصالي، فيما هو عادة في لقاءات كهذه يرفع علم اليمن الديمقراطي سابقاً.
الزبيدي كان قد عاد إلى عدن بشكل مفاجئ بعد يومين فقط من زيارته للولايات المتحدة، ولم يظهر في لقاء مع أي شخصية أمريكية رسمية.
رداً على هذا التجاهل ظهر الزبيدي اليوم التالي في فعالية عسكرية لـ"الانتقالي"، وقال إنه ومجلسه "الانتقالي" سيواصلون المضي لتحقيق الانفصال "مهما كانت التحديات الإقليمية والدولية".
ويعاني "الانتقالي" من تهميش نسبي، سعودي أمريكي، على خلفية معارضته لتطورات الأحداث في حضرموت، من إنشاء مجلس "وطني" وإعطاء المحافظة حكماً ذاتياً، وهو المشروع التي تدعمه الولايات المتحدة والمملكة السعودية.
"المجلس الانتقالي" فقدَ سُمْعته التي كونها خلال سنوات عبر الدعاية الإعلامية، وظهر فاقداً للشعبية في محافظتي حضرموت وشبوة، إضافة إلى بقية المحافظات الخاضعة لسيطرته، والتي شهدت احتجاجات رافضة لهيمنته وانهيار الخدمات الأساسية.
لا يستبعد أن يُقدم "الانتقالي" على تفجير الوضع عسكرياً. وجدير بالذكر أن السفير الأمريكي طلب -بلهجة حازمة- من عيدروس الزبيدي، خلال لقائه الأخير، في 12 تموز/ يوليو الماضي في الرياض، وقف التصعيد المضاد للحراك السعودي في حضرموت. وجاء لقاء السفير بالزبيدي عقب تصريحات أطلقها عيدروس هدد فيها باستخدام القوة العسكرية في حضرموت.
السياق العدواني للزيارة
يتصاعد النشاط الأمريكي في الموانئ والمحافظات الساحلية اليمنية، خصوصاً الجنوبية والشرقية، حيث قام السفير ستيفن فاغن، منذ تعيينه في حزيران/ يونيو 2022، بزيارة محافظة حضرموت الساحلية على بحر العرب، مرتين.
فمحافظات شبوة وحضرموت والمهرة تحولت بصورة مباشرة إلى قواعد مفتوحة لاستقبال قوات المارينز وعمليات إنزال القوات المظلية والقوات البرية التي أرسلتها الإدارة الأمريكية تباعاً مع مجموعات من قوات مشاة البحرية التابعة للأسطول الخامس والمعدات العسكرية الخاصة بالمجال الاستخباراتي والتجسسي، حيث تم إعادة انتشارها بصورة مستمرة في أكثر من نقطة تمركز وموقع عسكري، سواءً بالقواعد العسكرية المستحدثة والموانئ والمطارات وغيرها.
ظهرت حضرموت كمحطة أولى يتم تكثيف التحركات الميدانية فيها وعسكرتها أمريكياً بصورة مباشرة ومتصاعدة، آخرها وصول وفد أمريكي مكون من المبعوث الخاص ليندر كينغ ومعه جنرالات عسكريون وخبراء استخبارات يتبعون (سي آي إيه).
هذه المحافظات تشكل أهميّة كبيرة جغرافياً واستراتيجياً. وكونها ضمن الخريطة النفطية لليمن، فمن المهم بالنسبة لأمريكا إحكام القبضة الأمنية عليها وبالتالي تأمين عمليات النهب المنظم للنفط، كما يجري في شمال وشمال شرق سورية، في محافظات دير الزور والحسكة والرقة، حيث توجد أكبر حقول النفط والغاز في سورية، وتتواجد القوات الأمريكية هناك بالتعاون مع الزعامات المحلية، وقوات سورية الديمقراطية (الكردية) المطالبة بالحكم الذاتي.
الأسطول الأمريكي الخامس في اليمن – آذار/ مارس 2023
في الثالث من آذار/ مارس الماضي، وصل قائد الأسطول الأمريكي الخامس إلى اليمن ووفد مرافق له بصحبة السفير الأمريكي، التقوا بقائد خفر السواحل في الحكومة العميلة وممثلي الحكومة العميلة في محافظة المهرة، لمناقشة جهود الأمن البحري الإقليمي والفرص المستقبلية لتعميق التعاون البحري الثنائي والمتعدد الأطراف.
في العام 2013، أصبح اليمن العضو الثلاثين في القوات البحرية المشتركة، التي تضم حاليا 38 دولة عضواً وشريكاً - بحسب تعبيرهم. وفي تشرين الأول/ أكتوبر من العام الماضي، انضم خفر السواحل اليمني (العميل) إلى سفن من اليابان وجمهورية كوريا وإسبانيا في دورية لمكافحة القرصنة في خليج عدن قادتها البرازيل في إطار فرقة العمل المشتركة 151.
قال قائد الأسطول الخامس كوبر: "كنت سعيدا بشكل خاص بقيادة خفر السواحل اليمني ومشاركته في تدريبات مكافحة القرصنة المتعددة الأطراف. بالإضافة إلى ذلك، ساعد تنسيقنا الثنائي على حظر الأسلحة والذخيرة غير القانونية وضبطها في البلاد".
محادثات أمريكية في عدن – حزيران/ يونيو 2023
أواخر حزيران/ يونيو الماضي التقى السفير الأمريكي والملحق العسكري مارك وايتمان بوزير الدفاع في الحكومة العميلة، محسن الداعري، وناقشوا "سبل تقوية الشراكة الأمنية الثنائية".
أضافت سفارة واشنطن أن "فاجن أثنى على الجهود التي يبذلها الجيش اليمني لمكافحة تهريب المواد غير المشروعة ذات المنشأ الإيراني إلى اليمن"، دون مزيد من التفاصيل.
في لقاء ثانٍ أجراه السفير الأمريكي مع من يسمى "محافظ عدن"، العميل أحمد لملس، أعرب الدبلوماسي الأمريكي، ومعه مساعد مدير عام الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية بالإنابة، آندي بليت، عن "التزامهما بعملية سلام شامل لإنهاء الصراع ومعاناة الشعب اليمني"، بحسب ما نشرته السفارة الأمريكية.
وزير دفاع الحكومة العميلة أشار، خلال اللقاء، إلى أن ما سماه "التخادم بين مليشيا الحوثي والتنظيمات الإرهابية الأخرى ظهر بشكل أكبر في الآونة الأخيرة"، حد تعبيره. كما حذر مما وصفه بـ"خطورة استمرار التهريب الإيراني الحوثي للمُسيَّرات والصواريخ والألغام البحرية المهددة للإقليم والملاحة الدولية".
جاءت هذه التصريحات في اتساق تام مع المزاعم الأمريكية، وهو ما يُذكّرنا بترديد القيادات السياسية والعسكرية في صنعاء إبان حكم صالح ما كان يردده الأمريكي من ذرائع لغزو اليمن، وتعبئة المجتمع والقوات المسلحة بها، كنوع من التسويق لهذه التدخلات الاستعمارية.
الأهداف التكتيكية والاستراتيجي للزيارة
على المستوى التكتيكي، تأتي زيارة السفير الأمريكي إلى عدن في ظل انزعاج أمريكي من حالة الانقسام التي شلت قدرات المجلس العميل، ويقوم السفير بجهود في محاولة للملمة صف هذا المجلس.
قبل زيارته إلى عدن كان السفير الأمريكي قد زار الإمارات والتقى عيدروس الزبيدي و"محافظ شبوة" العميل وعدداً من قيادات "المجلس الانتقالي" هناك في أبوظبي، ثم عاد إلى عدن، في سياق اهتمام واشنطن بتوحيد "مجلس القيادة الرئاسي" العميل؛ إذ إن ثمة رغبة دولية وضغوطاً متزامنة لمحاولة توحيد مجلس المرتزقة، وتجاوز الخلافات، وهو ما يُذكّرنا بالتوجهات البريطانية لتوحيد السلاطين في مواجهة صعود الحركات الوطنية والقومية والعمالية واليسارية جنوب اليمن المحتل في خمسينيات القرن الماضي، وشكلت بريطانيا حينها "اتحاد إمارات الجنوب العربي".
من جهة أخرى ثمة انزعاج أمريكي من طريقة التعاطي السعودي مع صنعاء، التي بلغت ذروتها بزيارة السفير السعودي العلنية إلى صنعاء في رمضان الماضي، وهي جهود أحبطتها واشنطن في نهاية المطاف. لذلك فالولايات المتحدة تعمل على لملمة المجلس العميل وإعادة التوازن بين صنعاء وعدن، باعتبار ذلك ضرورياً لأي تسوية سياسية قادمة.
الحراك الأمريكي وعلاقته بالصراع الدولي والإقليمي
يرتبط الإطار التاريخي للزيارة بمستويين من الصراع التنافسي: المستوى الدولي، والمستوى الإقليمي، ضمن النزعة إلى تعدد الأقطاب، والحرب الغربية المضادة لهذه النزعة الدولية التي تقودها روسيا والصين وتحالف "البريكس"، والتي تبرز أوضح ما تكون في المواجهة العسكرية الراهنة غير المباشرة في أوكرانيا شرق أوروبا.
على المستوى الدولي، المنطقة في غاية الأهمية، لموقعها الاستراتيجي الرابط بين القارات عبر خطوط التجارة العالمية، البحرية (إذ تضم باب المندب ومضيق هرمز)،، وللمنطقة أهمية أيضاً في ذاتها، متعلقة بما تكتنزه من ثروات باطنية، وفي مقدمتها الطاقة (النفط والغاز) المهمة لمختلف المحاور الدولية كشرط ضروري للتطور الصناعي، بما في ذلك الصناعات العسكرية. هذه الأهمية الاستراتيجية للمنطقة ببعديها الجغرافي السياسي والاقتصادي، تجعلها محط منافسة دولياً.
للجانب الروسي الصيني حضور وتواجد في سورية شمالاً وفي الجزء الغربي من منطقة الخليج الفارسي، عبر التعاون العسكري الوثيق مع إيران، الذي يَظهر في المناورات العسكرية الدورية والاستثنائية بين الدول الثلاث. كما أن لروسيا والصين قواعد عسكرية في دول القرن الأفريقي، قرب مضيق باب المندب الاستراتيجي.
من الجهة الأمريكية الأطلسية، ففي المنطقة مقر قيادة الأسطول العسكري الخامس (البحرين)، وتحالفات عسكرية غربية واسعة مع دول الخليج ومصر، منها التحالف العسكري "المهام المشتركة (153)" الذي تتولى مصر رئاسته الدورية.
هذه المحاور والأحلاف العسكرية في القطبين (الشرقي والغربي) تجعل المنطقة محط تنافس، مرشح للتعقيد، مع اشتداد المواجهة المباشرة في أوكرانيا، ومع التطورات الراهنة في دول غرب أفريقيا؛ إذ تشجع روسيا التمردات الأفريقية ضد فرنسا (وبالتالي أمريكا) في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، وربما نسمع بتمردات أخرى.
على المستوى الإقليمي، يستمر الصراع بين محور المقاومة والمحور الأمريكي الصهيوني الخليجي. وتنعكس التعقيدات الدولية على التعقيدات الإقليمية في المنطقة، ففي مقابل التواجد المقاوم في كل من اليمن والعراق ولبنان وفلسطين وسورية، تتواجد القوات الأمريكية في كامل منطقة الخليج وفي دول القرن الأفريقي قرب مضيق باب المندب الاستراتيجي.
يصاحب ويرافق التواجد العسكري الأمريكي تواجد صهيوني، خصوصاً وأن الكيان الصهيوني بات علنياً في حلفه مع دول الخليج وفي المشاركة في المناورات العسكرية في منطقة البحر الأحمر، مع وجود في إريتريا.
السيناريوهات
الحراك الأمريكي الراهن، في اليمن، متعلق ببُعدين: بُعد محلي يمني، وبُعد إقليمي، وبالتالي فإن مستقبل هذا التواجد والحراك يرتسم في نهاية المطاف متأثراً بالتطورات في المستويين. وهناك ثلاثة سيناريوهات متوقعة:
- السيناريو الأول: يَفترض تعقد الأزمة مع إيران، وكذلك الحرب في أوكرانيا، واشتداد المنافسة الدولية، وهو ما يجعل الولايات المتحدة تتمسك بالمنطقة، وتزيد عسكرتها، وتتوغل أكثر في اليمن، وتعزز وضع المرتزقة في السواحل لحماية الأساطيل وتدعم مجالس حكم ذاتي، وحكومة عميلة اتحادية في عدن يُراد لها أن تُعمّر طويلاً - كحال التواجد في جنوب فيتنام. وهذا السيناريو هو المرجّح بناءً على المؤشرات الإقليمية والدولية الراهنة.
- السيناريو الثاني: يَفترض أن هذا التحشيد الأمريكي تكتيكي، ويهدف إلى الضغط على إيران في الملف النووي، وعلى صنعاء كذلك، ووظيفته الأساسية الدفع نحو تسويات سياسية في الملفين بما يخدم التوجهات الأمريكية، وسيتم تقليص التواجد العسكري بعد الانتهاء من التسويات السياسية. هذا السيناريو في المرتبة الثانية من القوة، إلا أن مؤشراته ضعيفة.
- السيناريو الثالث: يَفترض أن الحراك الأمريكي في اليمن منفصل عن الحراك الإقليمي، وأن التحشيد والحضور الأمريكي في المحافظات اليمنية الساحلية الهدف منه التهيئة والتحشيد لجولة من حرب عسكرية جديدة. هذا السيناريو معقول؛ إلا انه الأضعف في ظل إدارة بايدن، وربما يُصبح هو الأرجح إن جاءت إدارة جمهورية في الانتخابات المقبلة وحسنت علاقتها أكثر بالمملكة السعودية.
* نقلا عن : لا ميديا