وقفنا في خاتمة مساحة الأمس عند حقيقة موضوعية، أثبتها التاريخ، وتؤكدها التجارب المعاشة اليوم على أرض الواقع، وهي: أن النهج الرسالي الذي حمل مهمة الدفاع عنه، والعمل على ترسيخه في النفوس وفي واقع الحياة المتعددة الميادين أئمة العترة الطاهرة، وأعلام الهداية النجباء، كانا معاً ضحية الحملة والأتباع والأشياع والأنصار، ولم يكونا ضحية المنابذين والمعادين لهما، حتى وإن وجدنا معظم هؤلاء الهداة قد قُتلوا في سبيل الله، على يد الأعداء المستكبرين الطغاة، كون الوصول إليهم ما هو إلا نتيجة خلل في مريديهم ومحبيهم، الذين يقتلون النهج، فيمهدون بذلك الطريق أمام العدو الخارجي لكي يتمكن من قتل حامل رايته، والعامل على بعثه من جديد في الحياة كلها، وهذا ما يمكن تتبعه في سيرة ومسيرة الإمام الحسن عليه السلام، الذي خيب معظم مجتمعه ظنه، وكسروا ظهره، وبددوا عزيمته، وشتتوا قواه، فبعد أن أبدى من الثبات والجد الشيء الكثير في السعي لقتال معاوية، وأظهر التهديد والوعيد له علناً، خذلوه، وتفرقوا عنه، بل مالوا مع عدوه، فلما أيقن معاوية ببقائهم في حالة الضعف والتهاون والسلبية أخذ يعد العدة لمعركة جديدة، فقد كتب لعماله بضرورة موافاته ليضرب ضربته في العراق، وما جعله بمثل هذه الجرأة والشجاعة التي لم تكن له يوماً، ولم يكن لها، هو: قيام ثلة من رؤوس القوم وأعيانهم وأشرافهم المحسوبين على جبهة الإمام الحسن، والمعدودين ضمن شيعة أهل البيت بمكاتبته، يلتمسون منه الأمان لأنفسهم وأهلهم وعشائرهم.
من هنا أُعطي معاوية الضوء الأخضر كي يتحرك على يد الأعيان والمشائخ والتجار، ولم يكن الإمام الحسن على علم بذلك التحرك العسكري، إذ لم تصله الأخبار عنه إلا وقد بلغ جسر منبج، حينها بدأ الإمام الحسن بتجهيز وتنظيم الجيش الذي كانت استجابته بطيئة ومتثاقلة، وذاك ما يوضحه هذا المشهد، الذي يحكي صعود الإمام المنبر خطيباً في ظل حضور كل المعول عليهم فعل شيء من أجل الله، وقد قال لهم: أما بعد فإن الله كتب الجهاد على خلقه، وسماه كرهاً، ثم قال لأهل الجهاد من المؤمنين: [واصبروا إن الله مع الصابرين] فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون إلا بالصبر على ما تكرهون، إنه لما بلغ معاوية أننا كنا أزمعنا بالمسير إليه، فتحرك لذلك، فاخرجوا رحمكم الله إلى معسكركم بالنخيلة..
فسكت الجميع، ولم يتكلم أحد، ولم يستجب له فرد بالإشارة ولا بالنطق، أمام هذا التخاذل المريب وقف ثلة من الأوفياء الخلص للحسن ولأبيه من قبله محاولين استنهاض هذا الركام، وبعث هذا الموات، ومن هؤلاء الخُلص: عدي بن حاتم، وقيس بن سعد بن عبادة، ومعقل بن قيس الرياحي، وزياد بن صعصعة التيمي، وقد تكلم هؤلاء بكلام جعل أولئك يتظاهرون بالاستجابة والحركة، الأمر الذي يؤكد لنا عبر الزمن: أن أي عمل أو تحرك أو توجه أو نشاط في أي مجال من المجالات الحياتية يكون معظم المعنيين به هم من ناقصي الإيمان، لن يكون إلا من الأشياء التي تكتب على نفسها الهزيمة وقبل أن يخوض العاملون من هذا الصنف أي معركة فعلية.
* نقلا عن : لا ميديا