لا أدري من أين أبدأ، فمنذ بداية انطلاق فعاليات الذكرى السنوية للشهيد وأنا في حالة من الرهبة تجاه الكتابة عن هذه الذكرى العظمية، لم أقدر على استجماع أفكاري وصياغة كلماتي للتعبير بما يليق بمكانة وقدر الشهداء، فكيف يجاري قعودي قيامهم، وحياتي حياتهم، وشح كلماتي كرمهم، وحبر قلمي دماءهم وتضحياتهم، أريد الكتابة عنهم وأنا الفاني المقصر الذي يكتب عن أصحاب الحياة الأبدية، السعداء الفرحين بما آتاهم الله، أخشى أن يفوت تقصيري انقضاء أيام المناسبة ولا يكون لي شرف المشاركة ونيل الفضل من عبير خلودهم وعظمتهم ولو بكلمة.
تأتي المناسبة الوطنية لذكرى أسبوع الشهيد هذا العام في ظل تغيرات ومستجدات قضيتنا المركزية (فلسطين) التي تشهد اليوم حرباً مستعرة بين طرفين، بين حق وباطل، كُفر وإسلام، دين الله الحق والشيطان.
كل ساعة تمضي تكشف زيف ادعاءات قوى الاستكبار وأدواتها المتأسلمة والتي تدين بالولاء للشيطان، مجريات الأحداث وتسارع المتغيرات وجولات الصراع في المنطقة شكلت حالة من الفرز وكشف الحقائق وزيف الادعاءات وسقوط الأقنعة.
اليوم شهداؤنا فرحون أن دماءهم الزكية كانت بذرة التحرك ونواة التغيير لجغرافيا الجهاد في سبيل الله، عظماؤنا اليوم مستبشرون أن أرواحهم الطاهرة أثمرت انطلاقة كسرت قيود المستحيل برجال يلتحمون اليوم بساحات الجهاد ضد الشيطان الأمريكي والكيان الصهيوني في أرض فلسطين.
إن شهداءنا كان مسيرهم في طريق الأقصى، وهذه هي القراءة التي جعلت العالم المتصهين يسابق ويحشد جيوشه وعتاده الحربي لقتال اليمن إدراكاً منهُ بخطورة التغيير القادم من اليمن والمتمثل بالمشروع القرآني والقيادة الصادقة التي تُشكل تهديداً وخطراً على أدواته داخلياً وأتباعه خارجيا على مستوى المنطقة، وآخر الأحداث وانطلاق اليمن لخوض معركة المواجهة ضد الكيان الغاصب قطعت الشك باليقين أن ما كان متوقعا حصل والمتغيرات أسقطت توقعات ومخططات الاحتواء، ففي اليمن لم يعد للغرب وهيمنة الاستكبار الصهيوني أي مستقبل بعد الآن.
ما كان لنا أن نكون في موقفنا الذي نحن فيه اليوم من الأمن والأمان والاستقرار والسيادة والكرامة والعزة وامتلاك القرار لولا تلك الدماء التي افتدتنا وضحت من أجلنا وبذلت دفاعاً عن الأرض والعرض، لذلك فجميعنا ممن نحيا بسلام واستقرار في رقابنا دين حق لكل تلك العطايا التي نحن غير قادرين على الإيفاء بها، ولولا طريق الشهادة والشهداء لكان حالنا في مذلة وهوان واحتلال يفتك ويهتك ويقتل ويهين ويعربد في كل شبر، ولولا الدماء التي ضحت وتصدت لنالت منا غلبة الشيطان وقهر الأشرار ولكان حالنا أسوأ مما لا يتوقعهُ الكثيرون ممن لا يعرفون قيمة وعظمة ما قام به الشهداء من خوض المواجهة المبكرة والتصدي للعدو، ولكانت نماذج «داعش» و«جيش الشام» و«النصرة» في صنعاء وكل قرية ومديرية، ولكانت النساء سبايا والأطفال عبيداً للشياطين، ولمن يريد أن يعرف قيمة تحركهم وتضحياتهم وما حققتهُ دماؤهم عليه أن يبحث عما فعله تنظيم «داعش» وإخوانه في العراق وسوريا، وكان هذا مخططا لليمن لولا التحرك المبكر والتضحيات التي قدمها شهداؤنا لدحر مخططات الشيطان لكان ثمن عدم المواجهة والتحرك أكبر بكثير وأشد ألماً ووجعاً، كما يقول سيد الثورة (يحفظه الله).
يستوقفني دائماً التفكير في عظمة شهداء الحروب الأولى الذين انطلقوا في موكب الفداء مع الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي (رضوان الله عليه)، ثبات ويقين واستبسال وعطاء في ظروف صعبة وقاسية ومحيط متردد وحملة تشويه وتشكيك وشيطنة عالمية، ولكنهم عرفوا الحق واستوعبوا المشروع وكانوا السباقين في مرحلة ليس فيها شيء من الدنيا، بل لم يكونوا يجدون كِسرة الخبز التي تسدُ جوعهم وقطرة الماء لتروي عطشهم، صبروا صبر الأنبياء، ولا مبالغة في ذلك، كانوا سباقين ببساطتهم ذوي السياسة والوجاهة وأصحاب المؤهلات الذين لم يستوعبوا طريق الحق إلا بعد قرابة العقدين.
رضوان الله على الشهداء الأولين، فهم الربيون في أيام التمحيص، تحملوا الشتات وظلم الأقارب وقسوة العشائر وتبرؤ الأصحاب وتنكر الأصدقاء وتخلي الأحباب، كان يقين المشروع القرآني المؤنس لوحشة الشعاب والجوع الذي رافقهم، تغذت أرواحهم بالهدي القرآني الذي بلسم أوجاعهم وطمأن نفوسهم وثبت أقدامهم، دماء شهداء الحروب الأولى، الغائبين عن معرفة السواد الأعظم من الشعب الذين هم حاضرون بفضلهم وتضحياتهم وبركة ما حققته دماؤهم الطاهرة، إن ما نعيشه اليوم من عزة وكرامة هو من خيرات تضحياتهم التي أسست لاستمرارية هدى المشروع القرآني وصولاً إلى انتصار اليمن لشعبنا الفلسطيني في غزة.
من الضروري استحضار شهدائنا في كل نواحي حياتنا وإدارة حكمنا وبناء دولتنا التي من أجلها ضحى شهداؤنا، وألا نتوانى عن إنجاز ما تحركوا وجاهدوا وبذلوا من أجله، واستكمال مشوارهم والطريق الذي عبدتهُ دماؤهم الزكية في بناء دولة عادلة وحياة كريمة، وإحداث تغيير حقيقي على أرض الواقع تنعكس إيجابياته على الناس.
واجبنا مبادلة الوفاء بالوفاء لكل شهيد، وهي مسؤولية مُلزمة على الدولة وأن تحملها على عاتقها دون تقصير أو تأخير، في توفير التعليم والصحة لأبناء الشهداء، وتأمين الحياة الكريمة لهم، دون التفضل عليهم، لأن الشهداء هم الذين لهم كل الفضل.
ويجب هنا ألا ننسى شيئين:
الأول جرحانا، فهم النسقُ الثاني بعد الشهداء، وعلينا ألا ننسى فضلهم وما بذلوه من أجلنا ووجوب رعايتهم والاهتمام بهم وضرورة الوفاء بحقهم علينا.
والثاني: مُجاهدو الحربين الأولى والثانية، لا أدري من تبقى منهم، ولم يستشهد سواء أثناء الحروب السابقة أو في فترة العدوان، فهم عُشاق للجهاد موفون بِعهدهم طالبين الالتحاق برفاقهم السابقين.
التقيت أحد السابقين، وهو رجل بسيط، غير أن العناء يخط ملامح وجهه الفاضل، دفع ثمناً باهظاً لقاء الالتحاق بموكب الشهيد القائد السيد حسين (رضوان الله عليه)، حيث هدم نظام العمالة حينها بيته واقتلع أشجار مزارعه وألحقه بفئة المفقرين والذي لايزال على هذه الحال حتى اليوم. رجل لا تسمعهُ يتحدث ويقول: أنا ضحيت أو قدمت، ولا تعرف ما بداخلهِ من العظمة والإباء إلا ممن يتحدثون عنه بأنه أب لشهداء، يعاني جروح الحروب الجسدية والجروح النفسية لتبعات جور السلطة الظالمة السابقة، لا يجيد التواصل وتوظيف العلاقات واستثمار النضال والتضحيات في زمن «السابقون السابقون».
إن هذا المناضل وأمثاله في ذمة القائمين اليوم على الدولة، المتناسين لعظماء الزمن الصعب والأيام الشداد، الذين حضروا عندما غاب الجميع، وبذلوا وتقدموا عندما تأخر الكل، إنه نموذج وعينة من كُثر مغيبين عن أنظار الثورة والدولة والسلطة، ومن المعيب نسيان فضلهم.
في ظل المرحلة الجديدة التي تحققت بفضل ثورة الـ21 من أيلول، فإن من حق مجاهدي الحروب الأولى تسوية أوضاعهم وترتيب أمورهم وتخصيص مستحقات مالية لهم وتسكينهم برتب فخرية، وهذا حق مكتسب لهم وواجب على الدولة تجاههم، فمن المُخجل غَضِ الطرف عنهم وعدم الالتفاف لهم، ومنحهم ولو الشيء البسيط مما يستحقون تقديراً لما بذلوه.
* نقلا عن : لا ميديا