لقد خلقَ اللهُ تعالى الإنسانَ وأكرمه بالعقل، ووفّر له سبلَ العيش وموارده، ومسالك الحياة المفتوحة أمامه تهيئةً لإقامة مجتمعات الحق والعدل والحرية والكرامة الإنسانية، ولكن هذا الإنسان طغت عليه مصالحه وأنانياته، واستغرقَ في خصوصيته وجزئياته ونزعاته الأولى، فتضخمتْ ذاتُه وتجبّر في سلوكه وعلاقاته مع نفسه ومع غيره، واعتبر نفسه محور الوجود كله.. نسي اللهَ فأنساه اللهُ نفسه، ونسي أيضاً معنى الوجود وقيمة الحياة وهدف الخَلْق.. وكان بديهياً أن يفضي هذا المناخ من تناقض المصالح وهيمنة الأهواء -وبالتالي شيوع الحرمان والتجبر والظلم والتفاوت والتمييز والإفساد- إلى اشتعال بؤر الصراعات وتفجُّر حركة العنف في المجتمعات البشرية.. نعم إنه الظلم والتكبر والهوى النفسي، وانتشار المظالم وتضييع الحقوق في كثير من أمم العالم وحضاراته رغم وجود الرسالات والرسل.
وفي مواجهة هذا الواقع، بقيت القيم الدينية المعيارية هدفاً أسمى للمسيرة البشرية رغم ما خالطها من شوائب وتأويلات، وما اعترى تطبيقاتها من ثغرات وأمراض وتعقيدات عملية.. حيث كان يُدْعَى لها على أعلى المستويات والأصعدة الفكرية وغير الفكرية.
ولكيلا يتخذ المنحرفون والطغاة الظالمون المفسدون في الأرض من الدعوة للالتزام الأخلاقي ستاراً لأهدافهم الشيطانية، ووسيلة لتضليل الناس، سالت الدماء الزكية وبُذلت المهج، لحملة راية ونهج ومشروع الإسلام الأصيل، والذي يؤكد على أنه لا يمكننا الوصول إلى تمثُّل القيم والفضائل الأخلاقية في مجتمعاتٍ يعاني فيها الإنسان من الظلم والحرمان والطبقية، وتسوده علاقات الفساد والتسلط والتطرف والفوضى والعبث واللا قانون والسلبطة والنهب... فبأي منطق إنساني أو بأي معايير دينية يمكن أن نناقش ونقنع إنساناً بضرورة تمسكه بأخلاق الدين أو بقوانين المجتمع الذي يعيش فيه، وهو يرى بعينيه ويلمس بيديه، الظلم والبؤس والشقاء، ويعاني من الطبقية والتمييز والفساد، بما ينعكس عليه اضطهاداً وانحطاطاً ومظالمَ لا تُحتمل في عيشه ومختلف شؤونه اليومية؟!
نعم هذا هو دين الله الذي من أبرز ما يوجده في وعي معتنقيه هو المبدأ القائل: إن تطبيق القيم والفضائل الدينية بصورة مثالية أو على الأقل واقعية نوعاً ما في هكذا مجتمعات أو بلدان تحارب العدل والمساواة، وتتعيش على الظلم والصراعات والتناقضات، وتتقوم بالفساد والنهب، هو أمر غير ممكن وغير وارد بالمطلق..! ولا يوجد مجتمع بشري نجحَ في بناء وإقامة أسس العدالة والمساواة مع إنسانه الذي ينتمي إليه، وهو (أي إنسانه) كان يعيش في ظل الخراب والدمار والظلم..!
وعليه لا بد من الإدراك لأهمية التوازن بين الحقوق والقيم.. إذ إنه، قبل أن نطالب وتُطالِبَ الناس بالتربية والثقافة والوعي الحضاري والمدني وضرورة التنشئة التربوية الصحيحة وأهمية تطبيق القانون والالتزام بمعايير الأخلاق والفضائل (وهذا كله مهم للغاية)، علينا جميعاً أن نؤمن مناخات التطبيق السليمة.. فمشروعنا قائم على بناء الإنسان أولاً، وبناء وصياغة الإنسان الفرد المواطن وليس الإنسان الرعية العبد، أهم من القانون وحتى الأخلاق ذاتها، لأنه أساس الوجود كله، ولهذا فإعطاؤه حقوقه وتأمين احتياجاته ومتطلباته والسعي الحثيث والجدي، في سبيل تنمية قدراته واستثمار طاقاته ومواهبه الخلاقة والمبدعة هو جوهر التطبيقات القيمية والقانونية بل جوهر الدين نفسه.
* نقلا عن : لا ميديا