استشهد سيد الوعد الصادق في خطابه الأخير بمقطع من خطبة العقيلة زينب، معلمة الثورات، وصاحبة الفضل بعد الله في جعل الدم ينتصر على السيف.
زينب هي نبع من فيض بيت النبوة، وغصن من شجرتها، دكّت بخطبتها صرح الطغيان والقبلية التي سادت بعد تسلط الأمويين على الخلافة.
وخطبة الحوراء هذه حوت بين طياتها أبعادًا سياسية ثورية، لأنها مثّلت بجانب بعدها الديني -ومازالت- صيحة الحق ممزوجة بدماء أهل الحق والعدل ضد هيجان الظلم والاستبداد والقهر وفرحة الطغيان عندما ينتصر ويظن أن النصر سيظل حليفه إلى الأبد.
لقد رأت الحوراء يزيد يعبث برأس الحسين (ع) وبقية رؤوس الشهداء، متشفّيًا أمام نساء البيت النبوي مردّدًا شعرًا لابن الزبعرى جاء فيه:
ليت أشياخي ببدر شهدوا
جزع الخزرج من وقع الأسل
قد قتلنا القوم من ساداتهم
وعدلنا ميل بدر فاعتدل
ثم يضيف من عنده:
لأهلوا واستهلوا فرحًا
ثم قالوا يا يزيد لا تشل
عندما رأت العقيلة زينب (ع) كل هذا الانتقام والتشفّي والرغبة المحمومة في الثأر لمن قتل الأمويين في بدر وأحد والخندق وغيرها، وعندما شاهدت أحد الجهلاء يطلب إحدى بنات النبي (ص) لتكون سبية له، أعادت للحق اعتباره في مجلس الطاغية يزيد بخطبتها العظيمة التي كانت ولاتزال المنهج القويم القادر على إيجاد الثورة في ميدان الكلمة في مواجهة الطغيان.
كانت الخطبة الزينبية الشريفة المقصودة قائمة على المنطق، فهي تستدرجه وتسأل سؤالًا منطقيًّا، هل النصر حليف القوة وحدها، وأن الله يعطي الأقوى سبل النصر ثم يدعه يحتفي به رغم أنه على غير درب سبيل المؤمنين، وأن السلطان زائل، والدنيا نفسها زائلة، وأن الحق لا يعدم من يدافع عنه في عرين السلطان؟
ولم تتردّد الحوراء في تذكيره بأصله فهو من نسل الطلقاء، وجدته هي هند آكلة الأكباد عندما لاكت كبد حمزة في يوم موقعة أحد، وأن الطليق لا يحل له حكم بلاد المسلمين، فشريعة الحكم ليزيد باطلة، وبطلانها نابع من كون القابع فوق كرسي الحكم لا يملك دليلًا واحدًا أو معنى فقهيًّا، أو حتى أخلاقيًّا يعطيه شرعية الحكم، ولكنه لاقى تلك الشرعية من شرعية السيف وفقهاء السلطة الذين يبيعون الفتوى ببعض الذهب والفضة، والدور والإماء الحسان، ومن يحكم بشرعية السيف يظل حكمه مهدّدًا، واحتمال انهيار حكمه قائمًا في أي وقت إذا وجد من يكشف هذا الزيف، وقد كشفه من قبل أمير المؤمنين علي (ع) عندما ذكر معاوية بأنه طليق ولكن معاوية يتجاسر ويقول: «إن معي مائة ألف مقاتل لا يعرفون عمّارًا وسابقته، ولا عليًّا وقرابته، ولا سعدًا ودعوته، إنهم لا يعرفون إلا العطاء».
وقد كشف الحسين هذا الزيف عندما أكّد بدمه الشريف الذي أريق في كربلاء أن القبلية الجاهلية لا تعترف بقرابة من النبي الذي ينسبون أنفسهم إليه.
ولكنه الحكم وحده، لقد قال معاوية: «إني ما قاتلتكم لكي تصلّوا أو لتصوموا أو لتحجّوا أو تتزكّوا، وإنكم تفعلون ذلك، وإنما قاتلتكم لكي أتأمّر عليكم». هذا هو المنطق الذي أسّسه معاوية، الإمارة والحكم والسلطان.
ولذلك لم يجد يزيد أي حرج أن يستبيح المدينة المنورة يوم الحرّة، يقتل فيها من بقي من أهل بدر، ويفتض جنوده العذارى المسلمات ليلدن أطفالًا لا يعرفون آباءهم.
إنه الملك فاحرص عليه فلا نعرف ما الجنة ولا النار، كما قال زعيمهم أبو سفيان عندما آل الأمر إلى الأمويين، ثم يجد من ينصر الظالم بدعائه وزعمه أنه يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة، أو من مات وليس في عنقه بيعه مات ميتة جاهلية، وغيرها من أحاديث تحث على طاعة السلطان، أي سلطان ولو كان يلغ في دماء المسلمين لغًا، ولو قتل سبط النبي وسيد الشهداء.
كل ذلك شرعية باطلة لحكم باطل أكّدته الحوراء في خطبتها: «فالعجب كل العجب تقتل الأتقياء، وأسباط الأنبياء وسليل الأوصياء بأيدي الطلقاء الخبيثة ومن يفعل ذلك لا يحق له الخلافة، وإن استعصى على من يجلس على الحكم الخضوع فإنه يلجأ للسيف».
وأكّدت الحوراء في خطبتها أنّ الشرعية للحاكم لا ينالها بفتاوى البطانة غير الصالحة منهم الذين جوزوا الرضوخ لمن يحكم بحدّ السيف طالما أنه أصبح وليًّا للأمر، وقد رأينا في ما بعد كم قاست الأمة من أمثال هؤلاء العلماء الذين زينوا الباطل لكل ملك أو رئيس أو أمير، وادّعوا العصمة لهم من الزلل، يتدارسون خطاياهم كأنها من الكتب المنزلة، قبروا ضمائرهم وتباهوا بما آتاهم الحكام من فضائل الحطام وضللوا شعوبهم المغلوبة المقهورة على أمرها.
وقد ذكر الإمام في نهج البلاغة وصفًا بليغًا في العلاقة الشائكة بين الحاكم والمحكوم «قد استطعموكم القتال، فأقروا على مذلّة، وتأخير محلّة، أرووا السيوف من الدماء ترووا من الماء فالموت في حياتكم مقهورين، والحياة في موتكم قاهرين».