ليس بلداً أولى بك من بلد، خير البلاد ما حملتك، مقولةٌ لسيد الأوصياء وإمام البررة والأتقياء، ربيب النبوة، وحامل نور الرسالة بعد رسول الله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهما السلام، وهي مقولةٌ لا توحي بالتقليل من شأن الانتماء للوطن، أياً كان، ولا تجرم على الإنسان أن يحب الأرض التي ولد ونشأ وترعرع فيها، ومثلت له القيمة الوجودية التي يستطيع من خلالها التعرف على كل ما يوحي له بأصالته وتاريخه، ويقدم بين يديه الشواهد الشارحة لمدى قوة الصلة بينه وبين تلك الأرض، التي تحوي جذوره وأصله وامتداده، وتؤكد له طبيعة الإسهام في صنع الحضارة التي صاغها أجداده، مستفيدين من الموقع الجغرافي الذي مكنهم من القيام بدورهم في هذه الحياة، وضمن لهم الدخول في ميدان التنافس والتعارف والصراع بينهم وبين الآخرين من أوسع الأبواب، وإنما هي مقولةٌ تدعو القائمين على ولاية الأوطان، إلى التوجه نحو الإنسان، الذي سيعطي الوطن من روحه وجهده ووقته ومواهبه بقدر ما سيعطي له أولئك الحكام والولاة والزعماء والقادة من فرص للعمل، ويوفرون له من لوازم الشعور بالأمن والاطمئنان، ويمنحونه من لوازم الإحساس بالكرامة والعزة، ويهيئون له من ظروف مناسبة لكي يبدع ويسمو ويرتقي ويزكو ويتعلم وينجز في كل المجالات وعلى كل المستويات، مقولةٌ تتضمن خطاباً واضحاً لكل مسؤول في كل زمان أو مكان، مفاد ذلك الخطاب:
أنْ كفوا عن كل السياسات التي تعطي التربة والحجر كل معاني الحب والتقديس والاحترام، في الوقت الذي لا تلقي بالاً للبشر الذين بات الوطن بالنسبة لهم مجرد كابوس، لا يعني لهم شيئاً سوى المزيد من التشرد والضياع، ومضاعفة الجبايات والضرائب، فكروا ولو لحظة واحدة، وأنتم تعتلون سدة الحكم، بالإنسان الذي حملكم وهذه الأرض على ظهره دائماً، أما يجب عليه أن يستريح من ذلك الحمل، قليلاً؟ أما آن الأوان لتحملوا همه، وتجبروا كسره، وتخففوا عن حمل كاهله؟ لقد خاب كل توجه آمن أصحابه بالأرض وكفروا بسكانها، وقاموا لنشيدها الوطني، ولم توقظهم أو تستفزهم صرخة مظلوم، أو دمعة محروم، أو معاناة ضعيف، وسحقاً لسلطة لا يملك في ظل حكمها الفقير حتى قبرا يواري جثمانه إذا ما فارق الحياة، إلا بعد أن يقوم ذووه بدفع مبلغ وقدره، وبئس الأوطان تلك التي يستطيع أغنياؤها التملك لكل شيء، وليس لفقرائها حتى الحصول على مسكنٍ يداريهم عن عيون الناس، ويقيهم حرارة الشمس، وقساوة البرد، ومرارة الغربة والتشرد والحرمان.
هناك أشياء كثيرة نعايشها ونلتقي بها يومياً، تشعر من خلالها بكل شيء يوحي بأنك لاتزال على قيد الحياة، ولكنها لا توحي لك بأدنى شيء يجعلك تشعر لمرة واحدة أنك جزءٌ من أبناء هذا الوطن، مادمت فقيراً، فلا مشفى يستقبلك إن مرضت، ولا جامعة تفتح لك أبوابها كي تتعلم، ولا مقبرة ترغب باستضافتك إن مت، تنظر إلى العمران يتمدد ويزحف على كل الأحياء والشوارع والقفار والهضاب والجبال والوديان، ولكن ليس لمثلك الحق في الحصول على مسكن فيها أو منها، حتى وإن كان بالإيجار، وكأن كل شيء في بلدك قد صُمم خصيصاً للأغنياء، وليس أمامك سوى أن تموت أو تموت.