لعل التناقض الأكبر الذي وقع عندنا في اجتماعنا العربي والإسلامي، هو عدم الاهتمام العملي الحقيقي -لا النظري- بمنظومة الحقوق الفردية الإنسانية، وإعطاء القيم الدينية الاهتمام الأكبر والأبرز، بل ومطالبة الفرد الملتزم دينياً بتطبيق القيم دون اكتراث يذكر بواقعه المعاش.. مع العلم أن هذا الفرد -الإنسان هو موضوع التطبيق الأخلاقي، مما يقتضي الاهتمام به وتهيئة ظروف ومناخات نجاح عملية معايرته أخلاقياً -إذا صح التعبير- في مواجهة ظروف حياة وعيش بشري نسبي قاسٍ ومعقد ومتداخل ومتشابك الرؤى والأفكار ومتضارب المصالح، تهيمن عليه قوى طغيانية شهوية ليس سهلاً التعاطي معه فقط بالمواعظ والتحشيد الفكري المضاد.
صحيحٌ أننا عندما نعود إلى المنهاج الإسلامي الأصيل سنجد ثقافة غنية بثقافة القيم والحقوق على الصعيد الكلامي النظري، لكنها تبدو فقيرة للأسف بها على الصعيد العملي التطبيقي، إلا ما رحم ربي.
وقد أفضى هذا الواقع العملي الفقير بالحقوق الفردية إلى انكشاف الفرد المسلم وعريه أمام أزمات الواقع وطغيان السلطات القائمة النازعة تاريخياً إلى تكبيل هذا الفرد وتقييده بقيمه وسحب البساط الحقوقي من تحته، إذا صح التعبير.
إن الحقوق هي الطريق التي يجب تعبيدها للوصول إلى احترام الناس للقيم الدينية والإنسانية والأخلاقيات الخاصة والعامة.. إذ كيف يمكن أن تُقنع إنساناً جائعاً ومحروماً ومظلوماً -ولا يملك قوت يومه- بأنه يجب عليه أن يكون أخلاقياً ومطبِّقاً للقيم الدينية وملتزماً بحدود وضوابط معايير الأصالة الأخلاقية؟! لا يمكن أن يقتنع.. ولن يكون التزامه بها -إذا اقتنع تحت الضغط والرهبة- حقيقياً وواعياً وصحيحاً ودائمياً.
ولهذا علينا اليوم التركيز على موضوعية الحقوق كمدخل فعّال ومنتج لإنتاج فرد مسلم ملتزم واقعياً -بلا ضغط ولا تكلف- بالفضائل الأخلاقية، أي كمدخل لنشر القيم وتطبيقها فردياً ومجتمعياً.. وبهذا المعنى تكونُ الحقوق أهم من القيم على هذا المستوى (في النتيجة والمآل)، لأنها هي المقدمة التي يجب العمل عليها للوصول إلى فردوس القيم الدينية.
والتجربة البشرية أثبتت في كل حركة التاريخ، أن القيم الإنسانية أو القيم الدينية لا تعمل لوحدها بل تحتاج لمنظومة فعالة وحاضرة ومنتجة من الحقوق الفردية الجوهرية.
من هنا أعطوا الناس حقوقها، واطلبوا منها المستحيل.. أعطوها الحقوق الفردية وعلى رأسها حق الحرية الواعية والمسؤولة وحق العيش الآمن والهانئ والمستقر، مع تلبية حاجاتها المعيشية دونما إذلال ولا منة، ومن ثم حاسبوها استناداً لمنطق العدل والقانون بقوة وحزم دونما هوادة.. وهذه نقطة يمكن اعتبارها اليوم مطلباً حيوياً وملحّاً للغاية لكل ما يتعلق بمجالات ومفردات اجتماعنا الديني والسياسي العربي والإسلامي على طريق تركيز فكرة المواطنة والحكم الصالح في الواقع القائم عربياً وإسلامياً.
ويجبُ أنْ نعلم اليوم، أنّ الإنسانَ أو الفرد العربي المسلم، مقهورٌ في أيامنا هذه أكثر من أيّ زمنٍ مضى بصرف النظر عن الانتماءات والقناعات والخلفيات الفكرية والسياسية الأيديولوجية التي يؤمن بها أو يلتزمها، لأن الأفكار والأخلاق لا تعمل في فضاء اللا حقوق واللا عدالة.. ولهذا هو فاشل وعاطل ومشلول الإرادة وعديم الإنتاج، ومشكلاته العملية الحياتية إلى تزايد وتراكم بلا حلول مجدية حتى تاريخه.. تشوّهتْ معالمه النفسية والسلوكية، وغُرست فيه أسوأ القيم الدونية المبتذلة من حيث شعر أم لم يشعر.. حولوه إلى حقل تجارب.. ليس كمثله مخلوق في العالم، مطلوبٌ منه أن يقدم كل شيء، وهو لا يُعطى -ولم يعطَ- أقلّ أو أبسط شيء، من الكرامة والحقوق..!
إنّ تطبيقَ الحقوق (منحها أو انتزاعها بالقانون) هو مسألة ستعيدُ بناءَ النفس والذّات الفردية على معايير أصالتها الذاتية الفطرية بعدما داخلتها أمراضُ النفس، وشابتها نقائصُ المصالح والدوافع الظلم والتسلط والأنانيات والمطامع الفردية واستغلال الناس لبعضها بعضاً.. ومن خلال هذه الحقوق الفردية يمكنُ أيضاً إحداث صدمة التغيير المطلوبة للبدء بالسير على طريق النهضة والتقدم المنشود.. لأن إحساسَ الفرد بوجوده وتقدير كرامته وتلبية حاجاته تعطيه الدافع والمحرض للتحرك الفاعل والحثيث وصولاً لتمثُّلِ حركةِ القيم الأخلاقية في واقعه الذاتي والموضوعي.