نشوان دماج / لا ميديا -
يعتبر النواب أحد أبرز شعراء العراق الذين بدأوا مسيرتهم الشعرية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وبرحيله تطوى صفحات تلك المرحلة في تاريخ الشعر العراقي والتي تميزت بالغنى والتجريد والخروج على القوالب المألوفة وروح التمرد.
ورغم شهرة القصائد السياسية للنواب داخل العراق وخارجه إلا أن شعره العاطفي والغزلي وخاصة باللهجة العامية العراقية لا يقل جمالاً ورونقاً وسحراً.
كان النواب صاحب موهبة شعرية برزت في مرحلة مبكرة من حياته. وتميز بأسلوب فريد في إلقاء الشعر وأقرب ما يكون إلى الغناء أحياناً، خاصة عندما كان في مواجهة الجمهور.
أما سياسياً فقد انحاز النواب لقضايا الفقراء والبسطاء والعدل ومناهضة الاستغلال والاستعمار وأنظمة الحكم السائدة، فتعرض للسجن والملاحقة لفترة طويلة داخل وطنه واضطر لاحقاً للعيش منفيا في غربته التي ناهزت نصف قرن.
وداع وميلاد
قبل أيام فقط ودع العراق شاعره الكبير وأيقونته الثورية مظفّر النواب، بتشييع رسمي وشعبي مهيب، عكس التاريخ الثوري والنضالي للشاعر الذي عُرف بمناهضته للأنظمة العربية وانتقاداته اللاذعة، فيما ندّد مشيعون بمشاركة الحكومة العراقية ممثلة برئيس الوزراء.
وتمهيداً لمواراته الثرى في النجف تكريماً لوصيته بدفنه قرب والدته، نُقل جثمان الشاعر الذي فارق الحياة عن
88 عاماً في الإمارات، بالطائرة الرئاسية إلى مطار بغداد الدولي في وقت سابق.
هناك أقيمت له مراسيم رسمية بحضور رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي. وحمل حرس الشرف نعش النواب الذي كُلّل بالورود، بينما رفع أحدهم صورة له بالأبيض والأسود.
نُقل الجثمان بموكب رسمي إلى مقر اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين، حيث تجمّع المئات من الأشخاص من أجيال مختلفة، من نساء ورجال للمشاركة في الوداع الأخير للنواب.
على أطراف الطريق المؤدي إلى الاتحاد، تجمّع المئات ممن توشحوا بالعلم العراقي، تعبيراً عن حزنهم لفقدان هذا الرمز العراقي. وحمل النعش ستّة من عناصر حرس الشرف عند إدخاله إلى باحة الاتحاد حيث قوبل بالهتافات وبترداد أبيات من قصائده وبزغاريد النساء.
مع ذلك، بالكاد كان لدى الأسرة الوقت للتجمع حول النعش في الباحة، فيما تمكن رئيس الوزراء المحاط بحراسه الشخصيين، من الاقتراب منه سريعا قبل المغادرة.
واختُصرت المراسيم بعدما بدأ بعض الشباب بترداد شعارات ضدّ الكاظمي وضدّ السلطة مثل «كلكم حرامية» و»كلا كلا للعملاء» و»برا برا»، في أجواء ذكّرت بالاحتجاجات المناهضة للسلطة قبل عامين.
ورفع بعض المشاركين الأعلام العراقية، وآخرون صوراً للنواب، فيما حمل مناصرون للحزب الشيوعي راية حمراء كبيرة. كان الحضور الرسمي ثقيلا على جنازة النواب؛ لأن الشعب العراقي وحده كان هو الحاضر.
ضد الطغيان
مظفر عبدالمجيد النواب، هكذا تقول سجلات بياناته الحكومية، فيما عاش ردحا من الزمن مجردا من هوية جنسيته العراقية ليتنقل بين البلدان بهوية ليبية.
ولد النواب في بغداد عام
1934 لعائلة هاجرت إلى الهند ينتهي نسبها إلى الإمام موسى الكاظم.
توارث النوّاب جذور الرفض للظلم من تاريخ عائليّ ثرّ، إذ فرّ أسلافُه، كما تقول مرويّاتُهم، في العصر العبّاسيّ هاربين إلى الهند من عسف الحكّام.
وحين احتلّ البريطانيّون الهندَ، وكان أحدُ أجداده يُدير مقاطعةً فيها وأبدى رفضه لهيمنتهم، نفَوْه منها، فاختار بلادَ أجداده، فجاء العراق وسكن الكاظميّة.
شاء قدرُ النواب أن يكون سليلَ أسرةٍ أرستقراطيّةِ تتّسم بالثراء العريض والاهتمام بالثقافة والأدب والفنّ، قبل أن تفقد فجأةً وفي أوّل شبابه كلَّ ثروتها، ليظلّ النوّابُ لصيقاً بالفقراء حياتَه كلّها اختياراً قبل أن يكون اضطراراً.
أظهر موهبة شعرية منذ سن مبكرة. أكمل دراسته الجامعية في جامعة بغداد وأصبح مدرساً، لكنه طرد لأسباب سياسية عام
1955 وظل عاطلاً عن العمل لمدة ثلاث سنوات، في وقت صعب على أسرته التي كانت تعاني من ضائقة مالية.
التحق بالحزب الشيوعي العراقي وهو لايزال في الكلية، وتعرض للتعذيب على يد الحكومة الهاشمية. بعد الثورة العراقية عام
1958 التي أطاحت بالنظام الملكي، تم تعيينه مفتشاً في وزارة التربية والتعليم.
إذا شئنا أن نلخّص حياة الشاعر، فلنا أن نسرد قصّة انتمائه اليساريّ، وإذا أردنا أن نستذكر تاريخ الحزب الشيوعيّ العراقيّ، فيمكننا أن نكتفي بسرد محطّات حياة قرينه الشاعر. فقد ولدا معاً في ثلاثينيّات القرن الماضي، وعاشا محطّات التنكيل والاغتراب نفسها.
في
1963، اضطر لمغادرة العراق إلى إيران المجاورة (الأهواز بالتحديد وعن طريق البصرة)، بعد اشتداد المنافسة بين القوميين والشيوعيين الذين تعرضوا للملاحقة والمراقبة الصارمة من قبل النظام الحاكم. تم اعتقاله وتعذيبه من قبل المباحث الإيرانية (السافاك) وهو في طريقه إلى روسيا، قبل إعادته قسراً إلى الحكومة العراقية. أصدرت محكمة عراقية حكماً بالإعدام بحقه بسبب إحدى قصائده، وخفف في ما بعد إلى السجن المؤبد.
وفي سجنه الصحراوي واسمه نقرة السلمان القريب من الحدود السعودية -العراقية، أمضى وراء القضبان مدة من الزمن ثم نُقل إلى سجن (الحلة) الواقع جنوب بغداد.
هرب من السجن بحفر نفق، وبعد الهروب المثير من السجن توارى عن الأنظار في بغداد، وظل مختفياً فيها ثم سافر إلى جنوب العراق وسكن (الأهواز)، وعاش مع الفلاحين والبسطاء حوالي سنة وانضم إلى فصيل شيوعي سعى إلى قلب نظام الحكم. وفي
1969 صدر بيان العفو عن المعارضين فرجع إلى سلك التعليم مرة ثانية ليعمل مدرسا في إحدى المدارس. ثم غادر بغداد إلى بيروت في البداية، وبعدها انتقل إلى دمشق، وظل يسافر بين العواصم العربية والأوروبية، واستقر بهِ المقام أخيراً في دمشق ثم بيروت.
في العام
1981 تعرض النواب لمحاولة اغتيال في اليونان.
اشتهر بقصائده الثورية القوية والنداءات اللاذعة ضد الطغاة العرب، عاش في المنفى في العديد من البلدان، بما في ذلك سوريا ومصر ولبنان وإريتريا، حيث أقام مع المتمردين الإريتريين، قبل أن يعود إلى العراق عام
2011. قبل عودته إلى العراق، كان عديم الجنسية ولم يكن قادراً على السفر سوى بوثائق السفر الليبية (إذ كان قد حل عليها كشاعر كبير، وأقام فيها لسنوات، واتخذ من جواز سفرها هوية رسمية). صدرت أول طبعة كاملة باللغة العربية لأعماله في لندن عام
1996 عن دار قنبر.
رسمَ صورةَ الحاكمِ عاريةً
يُسجَّل للنوّاب أنّه تفنّن بتصوير الحاكم العربيّ بطريقة غير مسبوقة وبتنوع صيغ مدهشٍ، بلغة تهكّميّة حادّة وقاسية تستمدّ قوّتها من استثمار مُحتَرِفٍ للمفارقات والموروث وما يتردّد في الحياة اليوميّة للناس.
ولم يوفّر حتّى المسكوت عنه ليساعده في رسم صورة الحاكم عاريةً تثير سخرية الجميع، وتنفّس عن رغبات مكتومة تتفجّر استحساناً أثناء إلقائه المتفرّد، وتكون من ثمّ حديث المجالس والمقاهي والبيوت، إنّه يرسم صورةَ الحاكم بتجريدٍ يسمح بانطباق الصفات على الكثيرين من الحكّام المتشابهين سلوكاً، وإن كان من المفروض أنه يقصد أحدهم.
حقا لقد كان النواب أحد المعاول التي هدمت ببطء صورة الحاكم المقدّسة في أذهان المحكومين في العقود الأخيرة، مستغلّاً تناقضات ظلّت تشتجر بين الأنظمة العربيّة ليمرّر من خلال منابر وفّرتها هذه التناقضاتُ، كثيراً من شفراته ليجرح بمِشْرَطِه الحادّ الجميعَ.
غالبا ما يلقب النواب باسم «الشاعر الثوري». فشعره حافل بالرموز الثورية العربية والعالمية. استخدم عمله في إثارة المشاعر العامة ضد الأنظمة القمعية والفساد السياسي والظلم. كما أن لغته الشعرية وصفت بالقاسية، وتستخدم الألفاظ النابية من حين لآخر. استخدمت كتاباته الأولى لهجة جنوب العراق لأنه كان يعتقد أن تلك المنطقة «أكثر ثورية». ومع ذلك، فشل استخدام تلك اللهجة في جذب جمهور كبير، وتحول في النهاية إلى اللغة الكلاسيكية في أعماله اللاحقة.
يعتبر كثيرون أن مظفر النواب هو «الوريث الشرعي» للشاعر الفلسطيني عبدالكريم الكرمي (أبو سلمى)؛ إذ تأثر مظفر النواب في أشعاره بشكل كبير بالكرمي.
حين تكون الثورة تهمة
مظفر النواب شيعي، وبالتالي يتماهى مع مشروع إيران. ذاك هو ديدن الذباب الإلكتروني لخونج التحالف هذه الأيام على مواقع التواصل الاجتماعي. ففي الوقت الذي يستحي خونج الدول الأخرى أن يقولوا مثلما يأتي خونج اليمن ليقولوه بكل وقاحة، بل بطريقة وأسلوب يجعلانك تعتقد أنهم قراء من الطراز الرفيع، وليسوا مجرد ذباب عالق في حذاء ضابط سعودي أو إماراتي لم يعد يجد ما يفعله سوى أن ينتظر هبة ريح تنقله إلى حذاء آخر.
لم يبق إلا أن ينبشوا قبور شعراء قدامى أمثال المتنبي والمعري وابن الرومي وكل من سمت روحه شعرا في ثورة الحسين وعظمة الهدف الذي دفع حياته من أجله، فيقوموا بجلدهم بتهمة التشيع والعمالة لإيران. وإذا كان لهم أن يستطيعوا ذلك معهم، باعتبارهم مسلمين، فكيف يفعلون بشعراء مسيحيين هاموا بحب علي وبقيم ومبادئ ثورة الحسين، أمثال بولس سلامة وجورج جرداق وميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران وعشرات غيرهم، هل سيتهمونهم أيضا بالتشيع؟
حسنا فليقولوا كذلك. فهي تهمة يفخر بها مظفر النواب وكل من صدح شعره ثورة. وعلى حد رأي الشاعر بولس سلامة: إن في كل منصف شيعيا.
ولم يبق إلا أن تموت السيدة فيروز لتصبح أغانيها للبنان هي أغاني شيعية، وتصبح «بحبك يا لبنان» معناها عندهم «بحبك يا سيد حسن»!
هم لا يعرفون أساسا أن كل شعر ثوري هو بالضرورة متماهٍ مع ثورة الحسين، بحيث لا يمكن لأي قصيدة ثورية أن تنطلق من مخدع هند، بل ستنطلق بالضرورة من تراب كربلاء.
غضبوا على النواب لأبي سفيان بلحيته الصفراء، غضبوا عليه لندائه:
«يا حامل وحي الغسق الغامض في الشرق على ظلمة أيامي
احمل لبلادي
حين ينام الناسُ سلامي
للخط الكوفيّ يتم صلاة الصبح
بإفريز جوامعها
لشوارعها
للصبر
لعليٍّ يتوضأ بالسيف قبيل الفجر
أنبيك عليّاً
مازلنا نتوضأ بالذل
ونمسح بالخرقة حد السيف
مازلنا نتحجج بالبرد وحر الصيف
مازالت عورة عمرو بن العاص معاصرةً
وتقبح وجه التاريخ
مازال كتاب الله يعلَّقُ بالرمح العربية
مازال أبو سفيان بلحيته الصفراء
يؤلب باسم اللات
العصبيات القبلية...».
غضبوا للحية أبي سفيان وسوءة ابن العاص، لأن مظفر النواب عراهما شعرا نردده جيلا بعد آخر، غضبوا عليه لأن تلك اللحية الصفراء نفسها مازالت في الأوجه ذاتها، من أبي سفيان إلى الزنداني، ولأن تلك السوءة هي ذاتها من ابن العاص إلى ... ولا داعي لسرد بقية أصحاب تلك السوءات الجدد في كل عصر وزمان.
العودة إلى النجف الأشرف بعد نصف قرن منفى
مظفر النواب، الثائر العراقي الصادم لكل الاحتمالات، والقادم من غربة أبي الطيب وسجن أبي العلاء ليعري سوءة الحاكم العربي الممتدة من المحيط إلى الخليج، ساحبا معهم كل أصحاب اللحى الصفراء من أبي سفيان إلى شيوخ الوهابية.
إذا كان الشعر يبدأ من قصور الحاكم وبلاطاته كعادة درج عليها الأولون، فإن هذا الشاعر جاء ليهدم تلك القصور والبلاطات وليؤرق نومها فلا يجعلها تهدأ. لم يأت ليمجدها، بل جاء ليهدمها على رؤوس أولئك الذين حولوا الإنسان العربي إلى مجرد ركام من القهر والحرمان.
عَشق التراب الحسيني ورضع الثورة الحسينية بأبعادها الإنسانية القصوى، التي لا تترك لأحد متسعا لأن يزايد باسمها، خالعا كل رداء سواها زهاء ما يقرب من تسعة عقود هي عمره، ليودع أخيرا النخل والعراق والفرات ودجلة، عائدا إلى أمه الأرض في لحد يضمه إلى جانب من سبقوه على ذات الدرب ثورةً أبدية.