المقدمة:
إن مفهوم الانتماء والهوية... واسع وفضفاض بدرجة مهولة، فهو تصور تصدق عليه في الواقع عدة مصاديق لا يمكن استيعابها في بحث واحد، خصوصاً وأن النفس البشرية بعمومها تتنوع فيها مصاديق الانتماء ولكن الأمة الأكثر حظاً في التعبير عن زوايا الانتماء الذي تحدد وجهته النفسيات العربية ينعكس بدرجة متفاوتة فالدرجة البارزة هي التعبير عن الانتماء الذي يقصده الشاعر بوضوح... دون لجوء إلى رمز يقوم مقام المعادل الموضوعي وهذا الأمر سهل تناوله، ولكن الزاوية الحقيقية التي ركزت عليها في البحث هي النواحي التعبيرية بالرمز عن مكنون الانتماء كرمز: المرأة أو الناقة... وغيرها من الحيوانات، ورمز الصداقة وغيرها وأظن أن هذا هو نقطة تميز البحث عما سبقه من الأبحاث الكثيرة التي تناولت الانتماء وقصرته على القبيلة أو الجنس العربي وهذا من ناحية له مصاديق كثيرة من الشعر الجاهلي سواء القصائد أو المقطعات، ولكن من زاوية أخرى؛ تظهرُ قصور كثير من الأبحاث في تناولها لظاهرة الانتماء فهي واسعة جداً قد يكون الانتماء لحق فردي سواء مالي أو سياسي أو ثأر فردي، ويكبر ويتسع إلى حد الانتماء إلى كل الأرض وكل ما هو أصغر من هذا يندرج تحت هذا الاتساع، وليس هذا فقط فلم تتناول الأبحاث السابقة ظاهرة الانسلاخ عن انتماء سابق والالتحاق أو الهجرة إلى انتماء آخر، كالتنقل من وطن إلى وطن ومن قبيلة إلى أخرى، ومن التعاون مع حلف وتبديله بحلف آخر.
ومن هنا تبرز أهمية هذا البحث فهو واسع جداً ولكني أقتصر على ما يمكن أن أضيفه على جهود السابقين بالشكل المختصر لأعيد هذا المجهود في وقت لاحق بالشكل الذي يليق به... متوسعاً... لا مقتصراً.. أسأل الله تعالى ذلك...
وقد ركزت في تناول الانتماء بالأسلوب الواضح والأسلوب الرمزي على المعلقات أكثر من غيرها وكذا شعر الصعاليك، بأوضاعهم القاهرة البارزة في تغير ملامح الانتماء..
ومن مشكلات البحث إني مجبر على الاقتصار فلم أستطع تناول الانتماء الديني مثلاً فهو أقوى من الانتماء إلى قبيلة، فهو قد يكون وراء حلف سياسي تابع لدول عظمى خارج الجزيرة أو إلى أحلاف داخلها وتقود إلى الحروب والعداء فعلها مثل فعل العصبية للنسب، وربما أقوى وأفتك.
وكذلك لم أتناول الأحلاف التي تبرمها قبائل عربية مع أحلاف دولية كالروم والفرس والأحباش.. بل اقتصرت على الانتماء إلى أحلاف داخلية ضمن القبائل العربية وحدودها...
ومن الأمانة العلمية أن أدين بالشكر لكل الأبحاث السابقة التي ساعدتني على الاستدراك على كل ما سبق.
وعلى هذا المنهج التحليلي تكون خطة البحث:
الفرع الأول: الانتماء بالمفهوم الضيق ومراتبه...
الفرع الثاني: الانتماء بالمفهوم الواسع ومراتبه...
الفرع الثالث: الانسلاخ عن انتماء سابق والانتماء لغيره، ومراتبه.
خاتمة: تضمنت أهم النتائج والتوصيات...
ونسأل الله تعالى أن يعمد بالقبول عملي
الباحث حسن المرتضى...
مدخل تمهيدي:
أرى أن الانتماء ظاهرة اجتماعية وفكرية ثم فنية تأصلت لدى الجاهليين في وجوه كثيرة وتعمقت حين ارتبطت بالقيم التي تواضع عليها العرب طوعاً أو كرهاً وبين كل ذلك الشعر وحده، فلغة الشعر شاعت على الألسن بحسّ بالفطرة، وصارت على لسان الشعراء الجاهليين قوالب تحكي أبعادها النفسية والاجتماعية والفكرية... وذلك لأن الشعراء الجاهليين حققوا نجاحاً مبدعاً في فنهم. وذلك بمجموع دلالات شعرهم الحقيقية المباشرة، والإيحائية غير المباشرة.
من هنا أهم ظاهرة إيحائية سيتم توظيفها في الفروع الآتية هي ظاهرة استخدام رمز المرأة أو رمز الحيوان للدلالة على الانتماء أو على فقد هذا الانتماء.
ولا بد لنا حين ندرس الشعر الجاهلي من أن نضع أيدينا على العناصر الشعرية لما ينطبق به الشعر في دلالته المباشرة وإيحاءاته الفكرية البعيدة، وبهذا الفهم لمنطلق دراسة الشعر الجاهلي ندرك أن الانتماء عند الجاهلي حسّ مرتبط بالقبيلة (المجتمع) وبالأرض (الوطن) على نحو من الإيحاء وتتصل بها موارد المياه، والمقدسات – الوحدة الدينية الجامعة للقبائل... ( ).
وهذا يربطنا بأنواع المواطنة التي يتسم بها كل نوع من أنواع الانتماء فالمواطنة الدستورية تختلف عن مواطنة الحراك ويختلفا عن المواطنة الثقافية وأيضاً عن المواطنة العالمية التي ناشد بها بعض شعراء النخبة الجاهليين وكذلك كل أنواع المواطنة الايكولوجية وهذا لا يعني أن بين كل هذه الأنواع قواسم مشتركة وسيأتي تبيين هذا في الفروع التي هذا تمهيد لها...
ومع ذلك لا ننتظر من الجاهلي أولاً ومن الشاعر الجاهلي ثانياً أن يقول لنا: إنه منتم؛ فهو بالضرورة منتم إلى قبيلة يشيد بأرومتها وأمجادها... و. ينافح عنها بالسيف واللسان.. ومنتم إلى أرض ولد فيها وترعرع فوق ثراها، وكون ذكريات لا تفارق مخيلته... ( )؛ فالشعر الجاهلي صياغة جمالية لتجربة وجدانية واجتماعية ( ).
على أن هذا الانتماء مراتب داخل كل فرع ففي الانتماء الضيق مراتب فأولها الانتماء للذات فقط أو لنقص في الذات يسعى لتحقيقه أو لحق فردي يطالب به ثم يرتقي الانتماء الضيق إلى حق فردي أو جماعي في الحصول على الملك إلى أن يصل ذروة الانتماء الضيق فيوسعه إلى الأحلاف لحماية الذات، ولهذا ندرك كيف ينصهر الفرد بالجماعة، وكيف يصبح المجموع عند الشاعر المنتمي مساوياً للذات... ولهذا كان الشاعر ملزماً بالدفاع عن قبيلته وقيمتها، وهو التزام أدبي وطوعي، بل ندرك لماذا كانت القبيلة تحتفل بشعرائها حينما ينبغون فيها، فتقيم الولائم والاحتفالات احتفاءً بولادتهم، كما قال ابن رشيق( )
وإذا كان التفصيل في الحديث ليس من وجوه القول في بحث كهذا فإنه يترتب على المرء أن يخلص من الارتباط الفردي الضيق إلى الارتباط الجماعي إلى الجوهر الواحد المجسد بكلمة (عرب)؛ فعلى شدة الاقتتال على موارد الماء ومنابت الكلأ (الأرض) أو (الوطن) ظلت الوشائج تتعاظم اتصالاً، ليصبح الانتماء الخاص والعام جوهر الصراع الحقيقي، وليصبح الأرض التي اشتد الصراع عليها صورة للتضامن والالتقاء بين القبائل ولا سيما حين يبرز الخطر الخارجي من خارج جذر الانتماء...
وبهذا تصبح الأرض التي تعيش فيها قبيلة جزءاً مكملاً للأرض العربية في كل مكان، ويصبح مجموع الأجزاء صورة من الانتماء العربي كله ( ).
وهذا يدلنا على مراتب الفرع الثاني الانتماء بالمفهوم الواسع فهو إما انتماء إلى قانون أو عرف تجتمع عليه القبائل، أو ملك يطبق هذا القانون وتخضع لسيادته عديد من القبائل إلى أن يتوسع الانتماء داخل هذا الفرع ليصبح الطموح الانتماء إلى كل الأرض وملكها بعيداً عن الهوية العربية بعد أن وصل إلى حماية كل جنس العرب في إزاء القوميات الأخرى كالفرس والروم (العجم) يجسد هذا أحداث ذي قار وغيرها من الوقائع، هذا كان بإزاء الفرس وكذلك وقائع كثيرة مع جبلة والزباء بإزاء الروم...
ولكن ما الذي يفسر لنا الفرع الثالث وهو الانسلاخ عن الانتماء والانتماء إلى هوية أخرى باختلاف مراتبها كالعزلة عن القبيلة والانتماء إلى عالم الحيوان واعتباره هو الوطن الحقيقي أو كمرتبة أعلى وهو الهجرة والانتماء إلى قبيلة أخرى باختلاف الانتماء كالانتماء إلى الشبيه وهم الصعاليك والمخلوعون أو الانتماء إلى جنس غير الجنس العربي كالروم أو الفرس كما فعل امرؤ القيس أو سيف في الاستعانة بهم...
وعلى هذا ستكون الدراسة مركزة فقط على ثلاثة أفرع وهي:
الفرع الأول: الانتماء الضيق ومراتبه من الأصغر إلى الأكبر.
الفرع الثاني: الانتماء الواسع ومراتبه وصولاً إلى العالمية...
الفرع الثالث: الانسلاخ عن الانتماء الأول والالتحاق بانتماء مغاير ومراتبه.
* نقلا عن : المسيرة نت