كان الدرس الثالث من دروس السيد القائد عن وصية الإمام لولده الحسن (سلام الله عليهما) من الدروس العظيمة كبقية الدروس؛ إلا أن ما لفت انتباهي في هذا الدرس هو كيفية مواجهة الباطل والمنكر، وذلك أولاً من خلال معرفة جوانب المنكر وعدم الاقتصار على الجانب الأخلاقي فقط، بمعنى أن هناك باطلاً ومنكراً في عدة أطر، ومنها السياسي والاقتصادي وغيرهما من المجالات، يعني لا تضع تركيزك كله في إطار مواجهة المنكر -حسب مفهومك- على الجانب الأخلاقي فقط، وأنت عامل هدنة مع الفساد والمفسدين والظلم والظالمين والخيانة والخائنين. يجب أن نواجه المنكر بكل أشكاله، وليس المنكر في إطار التفسخ الأخلاقي فقط.
ومن ناحية أخرى: لا تقل: أنا عملي محدود، وهذا الموضوع ليس في إطار صلاحياتي وليس من ضمن مهامي؛ لأن ذلك سيجعلنا نركن على أصحاب الاختصاص، وبالتأكيد أولاً ليس كل شيء يصل إليهم، ثم إنهم ليسوا ملائكة وقد يحيدون عن المسار وينحرفون ويستسلمون لملذات وشهوات الدنيا، وبالتالي المسؤولية يجب أن تكون مشتركة، فتكاتف الخيرين وتضافر الجهود له مردوده العظيم، ونحن نرى كيف أن الشر بكل أشكاله متوحد. وهذا ليس معناه أن تترك عملك ومهامك الأساسية وتنشغل بما تراه أو بما يصل إليك من ظلم أو باطل أو منكر، وإنما اعمل ما تقدر عليه ولو حتى بإيصال البلاغ إلى من ترى أنهم سيحدثون تغييرا؛ لكن المهم هو ألا تتنصل إطلاقا.
وبهذا الشأن تذكرت كلام أحد قدامى الملتحقين بالمسيرة عندما سألته: لماذا لم تتحرك بعد أن شرحت لك عن الفساد المهول والمليارات المنهوبة بشكل قبيح؟ أجابني بأن هذا ليس من ضمن مهامه، وثانياً هو لا يستطيع أن يتحرك في أمور كهذه بدون أدلة.
وفيما يخص أنها ليست من مهامه فقد رد عليه السيد القائد. أما بشأن الأدلة فهل يمكن أن أتحدث عن أمور مهمة وكبيرة بدون أدلة؟! أم أن الأخ كان يريدني أن أنشر الأدلة بوسائل التواصل الاجتماعي ليتيقن من صحة ما أقوله؟!
ثم ماذا تعتبرون تقارير الأجهزة الرقابية إن لم تكن أدلة لا ينقصها إلا الإحالة إلى نيابة الأموال العامة والمحاكمة في قضايا الفساد الجسيم والمخالفات عالية المخاطر؟!
أضف إلى ذلك بالتأكيد هناك وثائق وأدلة تثبت كل ما نقوله، وإلا فوجب عقاب كل من يتحدث إعلامياً بلهجة التأكيد وبطريقة التشويه بدون دليل، وهناك حالات نعلم عنها؛ لكننا لا نملك أدلة بشأنها، فنبلغ عنها للتحري؛ لأن الدولة وأجهزتها المختلفة هي المعنية بالبحث والتدقيق والتحري، وليس المواطن.
وفي الأخير اتضح لي أن موضوع الأدلة مجرد حجة من باب تصعيب الموضوع؛ لأنهم يعرفون ويدركون تماماً أن أصعب شيء هو إيجاد أدلة تثبت فساداً جسيماً على فلان من الناس؛ وذلك لأن الفاسد ذكي جدا ولا يترك وراءه أدلة تدينه، فهو يفسد ويسرق بحرفية ويستفيد من تجاربه وتجارب غيره في طريقة التحصُّن وبناء المتارس، فما بالكم بالخائن؟!
وفوق هذا كله نقول لهم: لدينا أدلة عن فساد جسيم وعن خيانة وطن، وسبحان من خلق الدعممة!
وفي المقابل يهتمون بسفاسف الأمور وشكليات وأدنى درجات الفساد، ومفلتين هوامير المليارات. التفاعل معدوم، إلا من البعض، ممن يهمهم فعلا أمر هذه المسيرة وأمر الوطن بكل إخلاص، وعندما نصل إليهم نلاحظ التحرك الملموس، ولا يقول أحدهم: أنا قائد عسكري واختصاصي هو المنطقة الفلانية فقط ولا علاقة لي بهذا الموضوع.
كما أن الدعممة وعدم التحرك ومناصرة الحق ومواجهة الباطل وإنكار المنكر سببها الرغبة في عدم خوض مواجهة ضد كبار النافذين الذين يرعون الباطل والفساد والمنكرات، فيرجع يتحجج ذلك المتخاذل بعدم الاختصاص تارة، وبعدم وجود أدلة وإثباتات تارة أخرى، من باب التعجيز لا أكثر.
وهؤلاء هم من قال عنهم السيد القائد بأن هناك من انحرفوا عن المسار بعدما طعموا حياة البذخ والترف. وطبعا التخاذل درجات، والترف أيضا درجات. هناك من سكن في قصور المرتزقة التي تشعرك بأنك في عالم آخر ولست على كوكب الأرض، والبيت ملان دبيب عسل ولوز وزبيب درجة أولى والدولارات ملان الصناديق، وهناك أدنى وأقل درجة، وهكذا إلى أن نصل إلى أصغر المترفين، وبالتالي أصغر المتخاذلين للحق بصمتهم أو حيادهم، وهو ذاته الموقف مع الوطن لمن يسمون أنفسهم محايدين في مسألة العدوان، ألا نقول عنهم إنهم خذلوا الوطن ونصروا الباطل حتى بصمتهم؟! وهكذا في الأمور الداخلية بالنسبة للفساد والظلم وكل المنكرات بكل أشكالها.
والمهم في الموضوع هو ألا ننطلق من منطلق المصلحة الشخصية، فلا نتحدث عن الخلل إلا إذا أصابنا الضرر بشكل شخصي. وأحمد الله عز وجل أنني تحدثت عن الباطل والمنكر قبل أن أصاب بأي ضرر شخصي، بل إنني بعت كل ما أملك وغرقت ديوناً وتعرضت لأقذر أنواع التنكيل والتشويه، وكل ما أصابني كان بسبب أدائي الوظيفي وموقفي العملي وتحركي وقلمي، وكل الطرق التي رفضت من خلالها الباطل والظلم والفساد، ولم يكن موقفي بسبب ما أصابني، وهنا يكمن الفرق بين من يرى نصب عينيه الوطن والمسيرة القرآنية ومن لا يرى سوى مصلحته الشخصية والراحة والفهنة بكل درجاتها.
وطبعا، هذا لا يعني المجازفة والتهور، فمن الضروري الحفاظ على مصدر رزقك؛ ولكن يجب أن نتحرك بذكاء ونعمل ما نستطيع أن نفعله.
وللعلم والإحاطة كنت في كل مرة أسلم ما لديّ من وثائق وإثباتات إلى الجهات المعنية بكل صمت وشغال بهدوء ولا أتحدث عن عملي إعلامياً أبدا، وما أكتبه كان في أطر أخرى واستعنت على أموري بالكتمان، فمثلا وصل عدد بلاغاتي إلى الهيئة العليا لمكافحة الفساد إلى 35 بلاغاً، وعدد لا باس به إلى الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة، وهي بلاغات بفساد بمليارات مش كلام فاضي وأشياء صغيرة وتافهة؛ لكن حدث معي شيء ولاحظت شيئا.
حدث معي أن تعرضت لوشاية من (م. ص) أحد موظفي الجهاز المركزي، وتحدث مع الفاسدين عن وجودي في الجهاز وتسليمي لوثائق تدينهم، ومنذ ذلك الوقت والسواطير لم تكف عن خلس ظهري، وكافؤوا موظف الجهاز بتوظيف ابنته في الهيئة التي يترأسها الفاسد. أما بشأن ما لاحظته فهو أن التحرك أولاً بطيء، ثانياً: للإعلام دور مهم في تحريك كثير من القضايا، على أن يكون التداول ذكياً بحيث لا يخدم العدوان ولا يكون فيه نشر وثائق ولا يكون بشكل مفصل، وإنما رؤوس أقلام بما يكفي للفت نظر المخلصين ثم نوافيهم بالتفاصيل بشكل خاص، وللتصحيح وليس للتشويه. هذا في إطار الفساد المالي والقياس عليه ممكن في بقية الأمور.
تحدثت هنا عمَّن نصر الباطل بتخاذله وصمته، فما بالكم بمن نصره بعمله وبالسير في مساره وبالمشاركة في ظلم الشرفاء والتنكيل بهم؟!
كل هذا الكفاح وهذه المعاناة وهذه المواجهة ونحن في مرحلة المطالبة بإقالة الفاسدين، فما الذي سنحتاجه عند دخولنا مرحلة محاكمتهم واستعادة الأموال التي نهبوها؟! عونك يا الله!
* نقلا عن : لا ميديا