تجربة لم يختبرها الكثيرون، بمن فيهم القيادات العليا في الصفين الأول والثاني للقطاع الأمني في جغرافيا السيادة الوطنية المواجهة للعدوان الخارجي على البلد. ساعات ست قضيتها ما بين الاستماع والتأمل في واقع جبهة من أهم جبهات الصمود والكرامة مغيبة، فيها جنود مجهولون يعملون بصمت ولا يعترف بحقهم حتى المسؤولون عنهم، مهما عملوا يُنظر إليهم بعدم الرضا.
في أحد أقسام شرطة العاصمة شباب مجاهدون، وجدت بينهم بعدد الأصابع من تجاوزوا الأربعين من العمر، والبقية فتية عظماء يعملون ضمن كادر وزارة الداخلية، مرابطون لمدة 24 ساعة و30 يوماً في الشهر و12 شهراً في السنة، فيهم صبر عجيب وقناعة وبساطة وتحمل ليس له نظير. الأغلبية لم يصبح حتى جندياً بشكل رسمي، ويتسلم رعاية شهرية لا تتجاوز الثلاثين ألف ريال، منهم من لا يستطيع مزاورة أسرته، بسبب الظروف المادية، وآخرون أصبحوا متطبعين على الاغتراب في القسم الذي يعملون فيه.
أثناء مشاهدتي بصمت، في فترة ما بين المغرب والعشاء، أفراد مركز الشرطة يجمعهم الجوع على "طاسة" الفول، الذي يكاد يخلو من أي نكهة، حتى من البهارات. ومن يدخل من باب المركز ينادونه للعشاء. بعد ذلك خدمة البوابة سيسلم لزميله ليتولى الخدمة الليلية من بعده، وإذا بالمنتهية نوبته يخلع لزميله البيادة وشميز الميري ليلبسهما المناوب الجديد، وإذا بمدير مركز الشرطة يبحث عن ألف ريال (وأنا أشاهد ذلك)، وعندما توفر الألف الريال نادى لجندي الخدمة الليلية الذي دخل في حياء وهمس في أذن مديره مسبقاً ليعطيه بعد ذلك الألف ليتدبر أموره بذلك الألف ويؤدي خدمته حتى الصباح، وهكذا يبدو حالهم كل يوم!
يأتي بلاغ عن واقعة جنائية. طقم المهام في حالة يرثى لها، يعاني من جفاف مزمن في خزان الوقود، ومع ذلك لا يتأخرون عن أداء واجبهم رغم كل ظروفهم الصعبة ومعاناتهم القاسية. شباب الشرف والعفة في وجوههم، مجاهدون في الجانب الأمني، وهم الحماة الذي بكدهم وتضحياتهم نحن في نعمة الأمان بعد الله. تصدر توجيهات من العمليات لأفراد مركز الشرطة بالبقاء جوار المكان الذي يختبئ فيه مطلوبون على ذمة قضايا جسيمة، وألا يغادروا. لم يتذمر أحدهم، وسيقفون طيلة ساعات الليل في مداخل المكان المحدد للعشاء، ولا قارورة ماء ولا شي قد يساعدهم في تخفيف عناء مهمتهم؛ غير أنهم رجال معدنهم الصبر ويجري في دمائهم حب وظيفتهم، قناعتهم أنهم مجاهدون... الله والرجال!
هل تعلم قيادات الوزارة ومدراء أمن المحافظات بمعاناة هؤلاء الأبطال؟! هل يتم تلمس احتياجاتهم؟! هل هناك إنسانية وضمير لتقديرهم بما يستحقون، رغم ألا شيء يوفيهم ما يستحقونه؟! هل فكر أصحاب الرُّتب العليا ونزلوا من مكاتبهم ونظروا إلى أحوال ملابس الجنود في مراكز الشرطة وبياداتهم، ومطابخ طعامهم، وحالة دورات المياه، وأسرّة نومهم...؟! مع أنهم كما شاهدت لا ينامون إلا بعد أن تنهار قواهم من التعب وبشكل لا يكفي! هل من الصعب أن توفر لهم حتى ثلاجة ماء كتلك التي نجدها في المساجد، وتوفر لها إمدادات مياه صالحة للشرب، والنظر باهتمام لترتيب جانب الرعاية الصحية؟! ألا يوجد من يجتهد لرصد هكذا ضروريات واحتياجات للتخفيف عنهم والاهتمام بهم؟! أم لا تأتي العبقرية إلا بلجان الانضباط وقصقصة الرعاية الشهرية التي من المخجل التحدث عن قدرها الذي لا يساوي أجر أسبوع في مقابل معاناتهم وتعبهم، وإذا غاب أحدهم عن طابور التمام ينزل عليه الجزاء بدون تقسيط؟! هؤلاء رجال يعيشون في حالة اغتراب عن حياتهم وذويهم خدمة للوطن والمواطن. من منا يستطيع أن يرابط ويعمل عملهم ليوم واحد ويعاني معاناتهم ويتعب تعبهم؟! ضقت وأنا في زيارة ودية حضرت بينهم ضيفاً، وغادرت وقلبي موجوع مما لمست وعرفت عند مجالستهم!
الجبهة الأمنية لا تقل أهمية عن الجبهة العسكرية، وفرد الأمن لا يقل أهمية عن الطبيب والممرض في القطاع الصحي، وهم في مواجهة مستمرة مع الجريمة لمكافحتها وبسط الأمن وإحلال السكينة العامة وتلبية النداء على مدار الساعة. إنهم يستحقون الاستثناء وإعادة النظر في أوضاعهم، وفي ظل أزمة البلد وما تسبب به العدوان لهم أولوية قصوى وطارئة لتحسين أوضاعهم وتلبية احتياجاتهم، ولفتة كريمة من معالي الوالد المجاهد وزير الداخلية تجاه أبنائه الذين هم ضمن مسؤوليته.
تحية وتعظيم سلام لكل ضابط وفرد من رجال الأمن في كل مركز شرطة في كل مكان يعملون فيه. تعجز الكلمات عن قول ما يليق بكم. وللعلم ومن باب الإنصاف في الشكل العام فقد تحسنت المؤسسة الأمنية بشكل كبير جداً وبمستوى يلمسه المواطن بعد تولي وتعيين القيادي المجاهد على رأس هرم وزارة الداخلية. كان الله في عونهم.
* نقلا عن : لا ميديا